الفيلسوف هو فى كل زمان ومكان ضمير عصره، وربيب بيئته الاجتماعية، يفكر من أجل تقدم وتطور مجتمعه، يرصد كل ما هو قائم من أجل التخطيط لما ينبغى أن يكون. ولقد حلم الفلاسفة فى كل زمان أن يسود العدل فى الحكم، وأن يكون هناك دولة على رأسها حاكم عادل لا يفرق بين أحد ويحكم بالقانون. وكان هناك حلم مشترك وعام بين الفلاسفة على مر العصور من العصور القديمة إلى الحديث، وهو قيام مدينة فاضلة تمثل الحكم السياسى العادل، وهذه المدينة تمثل مطمح كل إنسان يصبو إلى سعادته وفضائله الخلقية، ويقوم نظامها على محاربة كل أنواع الرذائل والفساد، وهى مسعى سعى إليه الفلاسفة والحكماء على مر العصور، ولقد أسهم فى تصور هذه المدينة الفاضلة مفكرين ووفلاسفة كثيرون منهم أفلاطون فى محاورة (الجمهورية) ثم فى العصور الوسطى أوغسطين فى كتابه (مدينة الله) ثم فى العصور الوسطى الإسلامية الفارابى فى كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة) وكذلك أبن رشد فى كتابه (تلخيص السياسة) وتوماس مور الفيلسوف الإنجليزى فى كتابه (اليوتوبيا) وروسو فى كتابه (العقد الاجتماعى) وكامبلانا فى كتابه (مدينة الشمس) والفيلسوف الألمانى (هيجل) فى كتابه (الدولة المثلى البروسية) وبيكون فى كتابه (أطلانتس الجديدة)، وهذا الحلم اليوتوبى عند الفلاسفة كان له أسباب ودوافع متعددة، جعل الفلاسفة يحلمون ويتخيلون مدينة فاضلة تحوى وتتضمن نظام فاضل وكامل وعادل ومثالى قائم على تحقيق ذلك وفق نظام تربوى وقيمى محكم، ولم يكن فى الإمكان التفكير فيها والعناية بها لولا وجود التناقضات الاجتماعية والسياسية والتربوية فى المجتمعات الإنسانية التى عايشها الفلاسفة والحكماء وغيرهم. لذا تصوروا المدينة الفاضلة، وعب كل واحد منهم بطريقته عن هذه المدينة. وسوف نشير إلى ثلاثة نماذج للمدينة الفاضلة عند ثلاثة فلاسفة هم: أفلاطون - الفارابى – بيكون. فالمدينة الفاضلة عند أفلاطون كما تصورها فى محاورة (الجمهورية) هى مدينة يحكمها الفلاسفة وذلك ظنًا منه أنهم لحكمتهم سوف يجعلون كل شىء فى هذه المدينة مثاليًا، وبناء على ذلك ستكون فاضلة، كذلك يجد فيها المواطن والمقيم والزائر أرقى أنواع الخدمات وبأسلوب حضارى بعيد عن التعقيد، ويتخيل أفلاطون فى هذه المدينة أن الدولة عبارة عن وحدة حية من أعضاء والفرد خلية فيها، وهناك ثلاثة طوائف فى المدينة الفاضلة تمثلها ثلاثة قوى، الرغبة فى العمل تمثل القوة الشهوانية فى الإنسان وهذه تمثلها (الطبقة العاملة) قوة الغضب وتمثلها طبقة المحاربين الفضلاء، وقوة النطق وتمثلها طبقة الفلاسفة والحكماء. أما الفارابى فقد سار على خطى أفلاطون فى تصور المدينة الفاضلة، ومع ذلك ليست المدينة الفاضلة عنده خيالية ولا تقع فى جزر منعزلة ولا تنتمى إلى عالم الخيال السياسى، إنها مدينة ممكنة وتنطلق من الفكرة البسيطة التى أخذها الفارابى من أفلاطون وهى أن البشر على تنافرهم واختلافهم متحاجون إلى الاجتماع والتعاون، والمدينة الفاضلة عند الفارابى مثل الجسم التام الذى تتعاون أعضاؤه لتحقيق الحياة والمحافظة عليها، ويخضع هذا الجسم لرئيس واحد هو القلب، كذلك رئيس المدينة هو إنسان تحققت فيه الإنسانية على أكملها، ويحدد الفارابى عدة خصال يجب توافرها فى رئيس المدينة الفاضلة منها: أن يكون تام الأعضاء، جيد الفهم والتصور، جيد الحفظ، والمدن منها: المدينة الجاهلة التى لم يعرف أهلها السعادة والمدينة الفاسقة وهى التى تعلم كل ما يعلمه أهل المدينة الفاضلة، ولكن تكون أفعالها أفعال أهل المدينة الجاهلة، والمدينة المبتذلة وهى التى تكون أراؤها فى القديم أراء أهل المدينة الفاضلة وأفعالها، والمدينة الضالة وهى التى يعتقد أهلها أراء فاسدة فى الله والعقل، أما بيكون فقد تخيل مدينة بعيدة منعزلة فى المحيط الهادى سكانها من العلماء، الذين ينشغلون بالعلم والتجارب من أجل إسعاد البشرية، وليس هناك صراع بينهم أو أحقاد، لذا تقدموا فى جميع المجالات. وفى نهاية تلك الرحلة الشيقة عن المدينة الفاضلة هل تحققت تلك المدينة على أرض الواقع أم ظلت حلم يداعب خيال الفلاسفة؟ إنها حتى الآن مجرد حلم لم يتحقق وصعب المنال، ومع ذلك لن يكف الفلاسفة عن الحلم ومحاولة تحقيقه، سيظل يحلم المفكرون والفلاسفة من أجل حياة أفضل، ومستقبل مشرق، من أجل مدينة يسود فيها العدل والعدالة.
د. عماد الدين إبراهيم عبد الرازق يكتب: أحلام الفلاسفة
الأحد، 14 سبتمبر 2014 12:03 ص
الفيلسوف الفارابى
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة