"الإرهاب" مصطلح سمعته لأول مرة فى حياتى سنة 1993، كنت وقتها طالبا بالصف الأول الابتدائى، سعيداً بملابسى الجديدة وحقيبتى المصنوعة من القماش، استقيظت كعادتى مبكراً لأشارك فى طابور الصباح.. يومها أسرعت نحو والدى لكى أحصل على المصروف، لكننى وجدته هذه المرة مشغولاً بالحديث مع "خفير" نقطة الشرطة، الذى أعطاه ورقة صغيرة، قائلاً له: "دى إشارة من المركز مش عارف مكتوب فيها أيه خلى حد يقراها لك يا حاج"، وحاول والدى الاستعانة بى لكن كنت لازلت أدرس حروف الهجاء بالمدرسة، فاستعانت بابن عمى الطالب الجامعى، فحضر ونظر فى الورقة كثيراً ثم نطق بحروف متلعثمة تخرج من بين شفتيه بصعوبة قائلاً: "البقاء لله يا عم ابن أخوك استشهد فى "طما".
والدى توقف عن الكلام دقائق صامتاً فى ذهول، ثم صاح فى ابن عمى "بتقول أيه يا ابن الـ.."، فكررها له، "ابن أخوك مات يا عم والله مكتوب كدا"، جرى والدى نحو المركز، وعدت إلى المنزل وخلعت ملابس المدرسة، بكيت كثيراً على ابن عمى الذى يكبرنى بسنوات كثيرة، فقد كان يعود آخر النهار كل يوم بـ"لبسه الميرى" ولم أكن ساعتها أعرف طبيعة عمله بسبب صغر سنى.
دموعى لا تتوقف والنساء يتشحن بالملابس السوداء وأصوات الصراخ تهتك الصمت الذى خيم على قريتنا "شطورة" شمال سوهاج، هكذا كان المشهد حول منزلنا، وبعد سويعات، يمتلئ الشارع بسيارات الشرطة، أصعد برفقة أطفال الجيران أعلى المنازل نراقب بأعيننا سيارات الشرطة المحملة بالورود والموسيقى العسكرية، وتحضر زوجة "الشهيد" لا تكاد تسطيع الوقوف على قدميها بسبب صدمتها، ثم نستقبل نعش الشهيد، نزفه إلى الجنة، وأصوات القرآن الكريم تعلو وتخالط دعوات المخلصين بالرحمة والغفران للشهيد، وتتزاحم كاميرات الصحفيين داخل سرادق العزاء، يجرى والدى نحوهم صارخا فيهم: "مش هنتكلم مع حد سبونا فى مصيبنا".
بعد ثلاثة أيام.. انتهى العزاء، عرفت أن ابن عمى "كبارى" اسمه فى الحكومة "أبو الفضل عيسى عبد الراضى" كان يعمل شرطيا بـ"طما" واستشهد فى أحداث الإرهاب الشهيرة بالصعيد، ولم أكن ساعتها أدرك معنى كلمة "الإرهاب"، لكنه ارتبط فى عقلى منذ نعومة أظافرى باغتيال أقرب شخص إلى قلبى، فكرهت الإرهاب، وكبرت وكبر معى هذا الكره طالما شاهدت بنات "المرحوم" الأربعة دون أب، وطالما شاهدت صورة داخل منازلنا، كرهت الإرهاب كلما سقط شهيد جديد على تراب الوطن.
جنازة عسكرية لأحد شهداء الشرطة أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
د.سيد عبد الراضى
الله يرحمه ...