"العمى عمى القلب، واللى ربنا مديه بصيرة ميضروش العمى".. عبارة يرددها جيران هبة ومنى، الشقيقتين الكفيفتين، اللتين تسكنان مع والدتهما غرفة صغيرة بمنطقة شبرا الخيمة، يغلقن ثلاثتهن بابهن عليهن، ويكتفين بالجنيهات القليلة التى يتيحها بيع أكياس الترمس، والحلوى المنزلية، أمام مسجد عصفور، المواجهة لمصنع بنفس الاسم أحلامهن بسيطة، لا تتعدى الحصول على معاش شهرى من وزارة التضامن الأجتماعى، قدره 300 جنيه، يكفيهن ذل السؤال، فى الأيام التى يتعثر فيها البيع، ويضطررن إلى العيش على أرغفة الخبز الحاف لأيام، يقتتن عليها برضا، فى انتظار فرج الله.
حكاية الشقيقتين تعكس مدى إهمال الدولة للأم المعيلة، التى تمثل 17% من النساء العماليات، وفقا للمسوح الخاصة بالجهاز القومى للتعبئة والإحصاء كذلك فإن حكاية الشقيقتين تمثل إهمال الدولة للمعاقين، فقد فشلت جهود العائلة فى الحصول على معاش التضامن الاجتماعى، رغم تقديم الشهادات الطبية اللازمة، كما فشلت جهود الأم فى الحصل على ترخيص كشك صغير، لبيع سلع بسيطة تكفيها "بهدلة" الشارع، ومواسم بوار سلعتها.
تقول هبة، إحدى الشقيقتين المكفوفتين، أن يومهما يبدأ منذ السابعة صباحا، حيث تستيقظ الأسرة وتبدأ هبة فى تحضير الإفطار والصعود إلى سطح المنزل، "لتهوية الحمام"، وإطعامه، هبة التى لا يضيرها انعدام البصر، تتحرك فى المنزل بمهاره تفوق المبصرين، وتتعامل مع الحمام فوق سطح منزلها، بألفه تثير الدهشة، تقول هبة "أشعر به، واتبعه بصوته الخافت"، مضيفة أن أمها تساعدها مرتين فى الشهر، لتقصير أجنحة الحمام، حتى لا يرفرف عاليا، ويحلق بعيدا عنهما، حيث تعتبر العائلة "التلات اجواز حمام.. تحويشة العمر الوحيدة".
ورغم بلوغ هبة سن الأربعين، إلا أن الفتاة تبدو وكأنها مازالت فى العشرينات من عمرها، مثلها مثل شقيقتها، التى تصغرها بسنوات، ومازالت تحتفظ بابتسامة طفولية، وتلقائية غير معهودة، وقد رفضت والدتهما عروض الزواج التى تقدمت للفتاتين من أهالى المنطقة، لأنها لم تكن تناسبهن، فأغلب تلك العروض جاءت من رجال متزوجين، أو كبار فى السن، وقد أشفقت والدتها على الفتاتين من حياة غير مناسبة، تتسبب فى تعاستهما، خاصة مع عدم وجود رب للعائلة، فى مجتمع يرى فى المرأة المعيلة ضعف، وفى المرأة المعاقة عيب، يستوجب معه الموافقة على المتاح، دون اعتراض.
بعد الانتهاء من الإفطار العائلى، تخرج الأم بصحبة منى، لبيع الترمس أمام إحدى مساجد منطقة شبرا الخيمة، وتفسر الأم سبب اصطحابها لمنى بدل من هبة، الشقيقة الأكبر "عشان أوعى، ومش بتخاف"، فى حين تمكث هبة بالبيت، وتقوم بأعمال النظافة كأى فتاة مبصرة، حتى إن رائحة الصابون والهواء المتجدد، هو أكثر ما يميز بيت الفتاتان الكفيفتين، رغم بساطته، فالشقة مكونة من غرفتين فقط، إحداهما للنوم، والأخرى للمعيشة، تحتوى على بوتجاز وأريكتين وسلم خشبى، يصل إلى السطح، حيث "منشر" الغسيل وغية حمام صغيرة.
ويعد الراديو هو تسلية هبة طوال اليوم، فقد رأت الأم أن لا فائدة من إهدار مواردهم المحدودة على شراء تلفزيون، وقد تربت الفتاتان على أغانى أم كلثوم وعبد الحليم، وباتتا تنفران من الأغانى الحديثة الصاخبة، ربما يفسر هذا خوفها من الناس بشكل عام، خاصة هبة، التى نادرا ما تخرج من منزلها.
منى تبدو أكثر مرحًا، وأقل خجلا، فقد ساعد خروجها اليومى بصحبة والدتها على بناء صورة أوضح عن العالم الخارجى، وإن كانت تشعر بنفس الخوف من المجهول، ولا تثق فى أصوات الغرباء، مؤكدة أنها لم يكن لها أصدقاء فى العالم سوى شقيقتها هبة، حتى فى طفولتهما، لم يكن مسموح لهما باللهو خارج المنزل كسائر الأطفال، وكانا يسمعان أصوات الأطفال الصاخبة فى الخارج، ويتسآلان فى دهشة، لماذا لا يستطيعان الانضمام لهم.
ولدى منى خبرة كبيرة فى "تخليل" الترمس، وإعداده للبيع، فقد علمتها والدتها ذلك، خاصة بعد أن أنهكتها الشيخوخة، وصارت تشعر بوهن دائم فى زراعها اليمنى، مع رفضها استشارة أى طبيب، خوفا من أن يقطتع سعر الدواء، من قوت ابنتيها، خاصة بعد أن أصبحت هى منذ 5 سنوات عائلهما الوحيد، بعد أن فر الوالد من المسئولية المتزايدة، والفقر الجاثم على مصير الأسرة، وفضل التمتع بحياته، وصرف معاشه الضئيل على حاجته الخاصة.
ومنذ سنوات تسعى والدة هبة ومنى إلى الحصول على معاش الضمان الاجتماعى، حتى تأمن للفتاتين دخلا شهريا "فالأعمار بيدى الله"، وأقارب العائلة انقطعوا عنهم منذ سنوات، ومبلغ معاش التضامن الذى لا يزيد عن 300 جنيه، بإمكانه حماية الفتاتين من ذل السؤال، مع رعاية بسيطة من الجيران، الذين يرحبون دائما بخدمة الفتاتين الهادئتين.
لكن والد الفتاتين الهارب يقف كالحجر عثرة دون تحقيق أمنية والدة الفتاتين، فقد سبق له الحصول على معاش الضمان الاجتماعى، كما أنه لم يقم بتطليق زوجته، والدة الفتاتين الكفيفتين، رغم هجره للمنزل منذ سنوات، الأمر الذى أدى إلى تكرار وزارة التضامن رفض طلب والدة الفتاتين، رغم أحقيتهما بالمعاش المقرر للمعاقين.
الآن تنتظر والدة هبة ومنى فرج الله، أمام "فرشتها "المتواضعة لبيع الترمس، وكلما اشتدت عليها ألم المرض، رفضت عروض الجيران بالمساعدة، أو إلحاق الفتاتين بأى عمل، حتى لا يتعرضن للمضايقات، وتنتظر، ربما تخرج الأجهزة الحكومية عن روتينها المعتاد، وتدرس طلب الفتاتين بطريقة أكثر إنسانية، وتحقق للأم أمنيتها الأخيرة فى الحياة.
منى وهبة
والدة الكفيفتين تبيع الترمس
والدة منى وهبة
"الحياة فى الضلمة".. حكاية "هبة ومنى" الكفيفتين مع معيشة الأوضة والصالة.. تربيان الحمام وتسمعان أم كلثوم.. تحملان ابتسامات طفولية ووالدتهما تعولهما ببيع "الترمس".. و"معاش الضمان الاجتماعى" حلم العمر
الخميس، 25 سبتمبر 2014 10:20 م
منى وهبة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة