هناك حالة هوس لدى عديدين بتجربة الدولة العثمانية وصلت حد منحها صفات لم تكن لها وإن كنا نقر لها إنجازات فعليها سلبيات كثيرة والكل فى ميزان النقد التاريخى خاضع ومؤخرا صدر فى القاهرة كتابين الأول هو مذكرات السلطان عبد الحميد الثانى التى كتبها بعد عزله من السلطنة العثمانية نشرتها دار الحياة، والثانى هو دراسة للسيرة الذاتية للسطان عبد الحميد الثانى كتبها المؤرخ التركى سليمان جوقة باش وترجمها للعربية عبد الله أحمد إبراهيم ونشرها المركز القومى للترجمة. السلطان عبد الحميد الثانى، هو السلطان السادس والثلاثون فى تاريخ الأسرة العثمانية التى حكمت طوال ستة قرون، جلس على عرش السلطنة 33 عاماً انتهت بإقصائه عن الحكم يوم الثلاثاء 27 نيسان إبريل 1909 ميلادية، كان عمره آنذاك سبعة وستين عاماً، حيث قضى تسع سنوات رهن الحبس فى قصر اليهودى الآتينى Allatini، ثم نقل بعد ذلك ليلقى فى غيابات سجن قصر بيرلى باستنبول حتى وافته المنية يوم الأحد 10 شباط فبراير 1918 ميلادية.
كان السلطان عبد الحميد تعرض لهجوم حاد بعد إقصائه عن العرش، وشخصيته اخضاعها للتقييم اليوم باتت حاجة ملحة، خاصة أن الاهتمام بشخصه يأتى فى إطار الصراع الأيديولوجى فى المنطقة العربية بين إحياء ما يسمى الخلافة الإسلامية وبين الدولة الوطنية، فالسلطان عبد الحميد اتخذه الإخوان المسلمين رمزاً إلى إحياء الخلافة الإسلامية، فنشروا أول ترجمة لمذكراته فى مجلة المجتمع الكويتية التى لها صلات بجماعة الإخوان المسلمين، وكان قد ترجمها الدكتور محمد حرب ونشرت فى عدة طبعات غير أن طبعة دار الحياة التى صدرت فى القاهرة مؤخراً امتازت بعدد لا بأس به من التعديلات والإضافات والمقارنات منها:
- الإفادة من مذكرات كبار رجال السياسة العثمانية للسلطان عبد الحميد وقد عثر الدكتور محمد حرب على بعضها فى المكتبات القديمة فى استانبول، وصدر بعضها حديثاً وأهمها:
• مذكرات على سعيد بك وهو من المقربين للسلطان، وهى قد كشفت عن جوانب م نيات السلطان.
• مذكرات طلعت باشا غريم السلطان، وهو من أكبر المعادين له، وقد قدمت معلومات جديدة عن قضية فلسطين وعهن موقف حكومة الانقلاب – على السلطان – من ضرورة إقامة دولة لليهود فى فلسطين.
• قام الدكتور محمد حرب فى هذه الطبعة بمقارنة ما جاء فى مذكرات السلطان بمذكرات الانقلابين فى مسائل تهم القارئ المسلم عموماً والعربى خصوصاً مثل: المخابرات، والديموقراطية، فلسطين.
فالقارئ لمذكرات السلطان عبد الحميد الثانى ومقدمة الدكتور محمد حرب سيتعاطف بلا أدنى شك مع السلطان، لكن الناقد للتاريخ سيتوقف كثيراً لينقد السلطان وحركة الاتحاد والترقى التى أطاحت به ولم تحافظ على الدولة العثمانية بل قلصت أراضيها وخاضت الحرب العالمية الأولى دون حسابات دقيقة، من هنا تجىء أهمية قراءة السيرة الذاتية التاريخية التى كتبها المؤرخ التركى سليمان جوقة باش، معتمداً على الوثائق التاريخية، ومذكرات الأتراك والأوربيين عن السلطان عبد الحميد الثانى، يعود الفضل للسلطان عبد الحميد فى بعث روح الخلافة الإسلامية فى الدولة العثمانية فقد كان هو آخر محاولة لإحياء دولة إسلامية يدمج العرب والترك فى دولة واحدة، وهو عكس خطاب مناهضيه من أنصار تركيا الفتاة التى قامت على القومية التركية، شهد عهد السلطان عبد الحميد الثانى احتلال فرنسا لتونس وبريطانيا لمصر، ووقف عاجزاً مضطرباً فى مواجهة ذلك، كما شهد عهده بدايات تدفق منظم لليهود لفلسطين وهو ما يحسب عليه، إلا أنه رفض منح فلسطين لليهود هو ما يحسب له، كما كان خط سكة حديد الحجاز الذى يربط مكة المكرمة بإستنبول، ومشروع الجامعة الإسلامية، وإحياء الاهتمام بالعلوم الشرعية، كل هذا بعث روحاً مختلفة فى الدولة العثمانية، وأرى أن بعثه للخلافة الإسلامية كروح ومصطلح إنما كان لسببين من قبل هذا السلطان:
الأول: مواجهة الاستعمار الأوروبى الذى طالما سعى لتفتيت واحتلال ولايات الدولة العثمانية.
الثانى: أداة لإعادة الروح للدولة وبعث القوة فيها على الوحدة.
هذا البعث فى حقيقة الأمر كان أداة لمحاولة إنقاذ الدولة العثمانية التى هى فى حقيقة الأمر كانت فى طورها الأخير كدولة، ولم تستطع أن تجدد من أساليب حكمها فسقطت فى بؤر الصراعات المتعددة مع أطرافها، كما أنها لم يكن لها وعى بمجريات ما يحدث فى العالم خاصة فى مجالات التقدم الصناعى وفى عالم الأفكار، هنا استحضر سلسلة من الأعداد صدرت فى مجلة الاجتهاد اللبنانية عالجت هذه المشكلة تحت عنوان " الوعى التاريخى " أشرف عليها الدكتور رضوان السيد وكانت كاشفة لطبيعة فشل التحديث والتطور فى الحكم العثمانى الذى كان يدور حول شخص السلطان، ومن ناحية أخرى نرى مؤرخ السلطان عبد الحميد الثانى يبرز صفاته ومنها عشقه لشيئين أولهما: الأرض التى تعنى الوطن، وثانيهما: العرش الذى يعنى السلالة الحاكمة، وقدر استطاع حماية هذين الشيئين وصيانتهما فقط بنفسه دون أن يثق بأحد، فقد اعتمد على إدارة مركزية قوية ونقل السلطة من يد رئيس الوزراء إليه، فعطل العمل بالدستور وألغى مجلس المبعوثان ( البرلمان).
كان السلطان عبد الحميد الثانى فى بداية حكمه حسن النية ذا شخصية تتصف ببناء عقلى ونفسى سليم، كما كان يشد الانتباه بشدة إلى تدينه وتجنبه كل مظاهر التبذير والإسراف، وعدم تعاطى المشروبات الكحولية، كان كثير التجوال والتطواف بين الناس، ويصلى بينهم فى المساجد، ويتحدث مع الناس الذين يتصل بهم معتبراً نفسه إنساناً عادياً، نابذاً وراء ظهره قواعد التشريفات الضيقة القديمة للقصور.
استدارت الأعوام وأقبلت أيام أخر، واستيقظت فى نفس السلطان عبد الحميد الثانى حالة شديدة من الخوف والفزع خشية خلعه وعزله، بدأ يرتاب فى كل إنسان، إن حادثتى العزل والإقصاء اللذين تعرض لهما أخوة وعمه لم يبرحا خيال السلطان عبد الحميد، مما جعله يعقد العزم على تأسيس جهاز مخابرات قوى وفى هذا يقول: "لقد شكلت جهاز البوليس السرى من جديد حتى لا أتعرض للتعاسة والبؤس والشفاء، وكانت تقارير البوليس السرى والمخابرات والصحف تقدم إلى كل يوم".
عزل السلطان عبد الحميد الثانى، وخسرت تركيا الحرب العالمية الأولى، وتقلصت مساحة أراضيها فصارت دولة بعد أن كانت إمبراطورية، لكن الملفت للنظر هو خصوم السلطان عبد الحميد الثانى الذين ذهبوا لأخذ رأيه حتى بعد عزله، وكذلك جنازته بعد وفاته التى ينقلها لنا مؤرخه على النحو التالى "كان اليوم التالى لوفاته يصادف يوم الاثنين، حيث تم نقل نعشه إلى قصر طوب قابى جرياً على الأعراف المتبعة، وتم تجهيزه وتكفينه وصليت عليه صلاة الجنازة التى خرج موكبها عقب صلاة العصر، ودفن بناء على وصيته فى مقبرة جده السلطان محمود، وتمت مراسم الدفن المتبعة عند موت أى حاكم فى الدولة العثمانية.
سار فى جنازته جموع غفيرة من الخلائق الذين ارتفعت أصواتهم بالصراخ والعويل قائلين: لا تتركنا يا أبانا وإلى أين أنت ذاهب، كان هؤلاء الناس يعيشون تحت وطأة الألم الشديد الذى أصابهم بسبب ما فقد من أبنائهم فى الحرب العالمية الأولى، وشاهت أرواحهم ويئست نفوسهم من تلك العذابات التى ذاقوا مرارتها من جراء هذه الحرب المريرة.
"أن من كانوا يحقرون عبد الحميد ويزدرونه قد التفوا حول نعشه بكل تجلة وتوقير وجعلوا يديمون النظر إلى جسده المسجى بنظرات مغرورقة بالدموع، وهم يكنون كل تقدير وإعزاز وإعجاب إلى هذا الداهية السياسى والعبقرى الفذ، ولكن بعد فوات الأوان. أسرع أعداء عبد الحميد وأصدقاؤه إلى جنازته يودعونه فى رحلته الأخيرة ولم تشهد استانبول طوال تاريخها مثل هذه من الزحام.
أما الصدر الأعظم طلعت باشا فكان يغطى وجهه بيده اليمنى وهو يمشى خلف التابوت ويجهش بالبكاء فى نشيج وتنهيد. وكانت أشعة الشمس يخبو نورها فى أفق الكرة الأرضية كان نعش عبد الحميد يوارى فى الثرى، بُفقد عبد الحميد الذى لم يعد يرى شعبه مرة أخرى على ظهر الغبراء، لقد فاضت روح عبد الحميد إلى بارئها قبل أن تلفظ الإمبراطورية العثمانية آخر أنفاسها. لكن ما نستطيع أن نقوله أن الخلافة كفكرة لدى السلطان عبد الحميد لم تكن سوى أداة سياسية للحفاظ على دولته.
موضوعات متعلقة..
خالد عزب يكتب: مدينة أسيوط.. رؤية من الزمن الجميل
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة