يحمله بين يديه ويسير بخطى بطيئة مترددة نحو المكان الذى اختاره للحفرة التى طالما كان يحفرها ثم يردمها ليعود الآن ليكمل حفرها بعد أن يضع حلمه الذى يحمله بين يديه جانبا لدقائق حتى يستطيع أن يكمل الحفر.. يحفر بكل قوته مسرعا فهو يخشى أن يتراجع هذه المرة أيضا عن قراره بأن يوارى حلمه الثرى لعله يرتاح بعد التخلص من الحلم الذى طالما صاحبه وأحبه وعاش به وعاش له وحارب من أجله.
انتهى من الحفر وتوجه إليه ليحمله للمرة الأخيرة ثم يدفنه... نظر إليه الحلم بعينيه البريئتين مستعطفا ومستنكرا قسوة هذا القرار.. خلعت هذه النظرة قلب صاحبه وانطلقت دموعه فيضانا من عينيه وتعالى نحيب روحه المجروحة فاحتضن حلمه بشدة ليودعه ثم وضعه فى الحفرة ليبدأ بإهالة التراب عليه وهو يبكى.
عاد إلى بيته وقلبه يحترق.. نظر إلى وجهه فى المرأة ليرى وجها لم يعد يعرفه.. وألسنة نيران قلبه تتراقص فى مقلتيه.. يراها فى المرأة ويشعر بها.
كيف له أن يرتاح!!! أين يلتمس المفر من هذه النيران وهذه الآلام!!!
فقرر أن يعيش شبحا.. لابد وأن الأشباح أكثر سعادة من الإنسان فهم لا يشعرون ولا يتألمون.
تحول بالفعل إلى شبح يسير بين الناس.. لا يفرح ولا يحزن.. لا يحب ولا يكره.. لا يتألم ولا يرتاح.
لم تعد تطربه تغاريد البلابل أو تحرك فؤاده ترانيم الكروان.. لم يعد يطارد الفراشات أو يلهو معها ولم يعد يغنى للزهور فى الربيع.
لم يعد القمر يروى له حكايات العاشقين.. لم تعد النجوم تلعب معه "الاستغماية" كما عودته.
لم يعد ينتظر ولادة النهار من رحم الليل كما اعتاد من قبل.. لم يعد من الأساس يشعر بالفرق بين الليل والنهار.
لم يعد يشعر بحلاوة الارتواء بعد الظمأ.. لم يعد يشعر بذلك الإحساس الجميل الذى كان يسرى فى روحه عندما يلمس كف الرضيع.
لم يعد يستطيع أن يستمتع باسترجاع ذكرياته الجميلة التى جمعته بأصدقاء الطفولة ولم يعد يستطيع أن يشعر بالفرح يغمر قلبه حين يبتسم ثغر حبيبته.
لم يعد يستطيع أن يبكى.. اشتاق البكاء كما اشتاق الابتسام.. اشتاق أن يعود إنسانا.. حياة الأشباح بشعة لم يعد يطيقها.
إنسان تخلى عن حلمه لابد وأن يصير شبحا.. وحتى يعود إنسانا كان لابد أن يبحث مرة أخرى عن حلمه ولا يعود إلا به ولا يفارقه أبدا.
وتحت الثرى يرقد حلمه حيا ينتظر عودته تؤنسه أحلام وأدها أصحابها كما فعل به صاحبه.. إنهم يتسامرون تحت التراب.. يواسون أنفسهم أن الأحلام لا تموت أبدا حتى وإن دفنت.. يموت البشر ولكن أحلامهم لا تموت.
ورقة وقلم
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة