صدر حديثا للأديب والناقد الدكتور حلمى محمد القاعود كتابا بعنوان "الأدب المقارن.. المفهوم والتطبيق" عن دار النشر الدولى بالرياض، ويقع الكتاب فى 350 صفحة من القطع الكبيرة.
ويستدعى المؤلف افتتاحية العدد الأول من مجلة الثقافة المصرية عام 1939م، حيث كتب أحمد أمين يرسم خطة الإصدار الجديد الذى يخاطب به المجتمع الثقافى آنئذ، ويفصل ببساطة شديدة فى قضية شغلتنا ولما تزل، وهى العلاقة بين الشرق والغرب، وتمثل فى الوقت نفسه جانبا مهما من جوانب العمل فى الأدب المقارن موضوع هذا الكتاب، وهو العلم الذى يقوم على دراسة العلاقات التاريخية والتأثير والتأثر بين الآداب المختلفة فى الشرق والغرب.
فالشرق فيه كنوز مطمورة، والغرب فيه كشوف مبهرة، والطرفان لا يملكان ترف القطيعة وإقامة الحواجز بينهما، ولا مفر من الجهد لكشف المطمور وصياغته من جديد ليلائم العصر، ولا مفر من الإفادة من كشوف الغرب ومعطياتها التى تلائم أمتنا.
البساطة الشديدة لأحمد أمين فى طرح القضية نسفت الأحادية المقيتة التى انقسمت إليها النخب فى بلادنا، من يتعصبون لتراثنا دون جهد يكشف كنوزه وجواهره، ومن ينحازون إلى الغرب دون وعى أو تمحيص، الطرفان لا يحملان خيرا للأمة ولا يحركان قاطرة النهضة الفكرية والثقافية والحضارية إلى الأمام، وهو ما يقتضى أن يبذل العرب جهدا فائقا فى العمل على الجبهتين للإفادة من التراث والغرب جميعا.
لقد أصبح الشرق مرتبطا بالغرب ارتباطا وثيقا فى كل مرفق من مرافق الحياة: فى الحركات السياسية، فى الحركة العلمية والأدبية والفنية، فى المادة والعقل، فى كل شىء.
ومن الخير للشرق أن يقف على هذه الحركات فيتصرف فيها عن خبرة، ويحكم فيها عن علم، ويسايرها أو يعارضها عن درس، فتلك أصح لحكمه، وأوفق لغرضه، وأليق بإنسانيته.
ويشير أحمد أمين إلى أننا "لا نريد حربا إلا حرب الآراء، فهى حرب خير من سلم، وصراع خير من مهادنة، وقد علمتنا الأيام أن الرأى لا تنجلى صحته إلا بعد أن يُصهر فى البوتقة، أما حرب شخص لشخص فى شخصيته، وجماعة لجماعة فى ذاتها لا فى آرائها فسخافة نربأ بأنفسنا عنها، وصغار فى جانب الغرض الأسمى الذى نرمى إليه".
وتحمل مجلة الرسالة فى أعدادها المبكرة دعوات للاهتمام بالتبادل الثقافى لتمكين الأواصر وتوثيق العرى بين الأدب العربى الحديث والآداب الغربية، من خلال الدراسات والترجمة.
وفى سياق النهضة الأدبية التى شهدها النصف الأول من القرن العشرين، بدأ البحث الجدّى عن "الأدب المقارن"، العلم الذى سبقت إليه فرنسا، وأسست له، وجعلت أوربة والولايات المتحدة تلتحق بركبه، مع تفاوت فى الرؤية والتنظير.
كانت هناك جهود فردية مخلصة لفكرة البحث والمعرفة والإفادة العلمية من الغرب، هيأت المجال لجهود أكاديمية فى الجامعة المصرية، توجت برحلة "محمد غنيمى هلال" إلى الغرب (باريس تحديدا) ليعود وهو يؤسس علميّا لـ"الأدب المقارن"، ويقدم كتابه الذى حمل هذا الاسم، وصار عمدة للباحثين من بعده.
وتتوالى البعوث العلمية والدراسات النظرية والتطبيقية، ويصدر "الطاهر أحمد مكى" بعد ثلاثة عقود من الزمان تقريبا كتابه "الأدب المقارن: أصوله وتطوره ومناهجه" ليضيف ما استجد من تطورات إلى الأدب المقارن ومباحثه.
ويستجيب كتاب الدكتور القاعود لمستجدات البحث فى الأدب المقارن ليقدم للباحثين والطلاب فرصة العمل فى الأدب المقارن وفقا لمفاهيم دقيقة، ونماذج واضحة.
يعرض الكتاب لمفاهيم الأدب المقارن وقضاياه فى القسم الأول متناولا تعريفات الأدب المقارن ومسمياته ومفاهيم الأدب القومى والأدب العالمى والمثاقفة، ونشأة الأدب المقارن فى الأدبين الغربى والعربى، محاولا التركيز على أبرزالتحولات فى بلورة العلم هنا وهناك، مع بيان عُدّة الباحث وميادين البحث وفوائد الأدب المقارن، ثم يتناول الأجناس الأدبية والنماذج البشرية وأثرها فى الآداب العالمية.
وفى القسم الثانى يعالج بعض النماذج والتطبيقات التى نتجت عن الصلات التاريخية والتأثير والتأثر، مثلما وضح فى كتاب كليلة ودمنة والكوميديا الإلهية والفردوس المفقود وأسطورة أوديب والأديب الألمانى جوتة.
إن هذا الكتاب يفتح الباب أمام الطلاب والباحثين الشباب فى لغة سهلة ودقيقة ليستشرفوا علما ما زال جديدا بالنسبة لنا وهو الأدب المقارن الذى تفيد منه الإنسانية كلها حين يقرب بين الشعوب، ويدق مسمارا فى نعش العنصرية الغربية والمركزية الأوربية، ويفسح المجال للتسامح وبناء علاقات بشرية على أساس من التكافؤ والمساواة والأمل.
وفى الكتاب قائمة بالإصدارات التى تناولت الأدب المقارن فى أرجاء العالم العربى يفيد منها المهتمون بالبحث فى هذا العلم المهم.