عندما نسمع حديث نبينا عليه الصلاة والسلام: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»، فإننا قطعا نستبشر خيرا ونطمئن تماما على ديننا الحنيف لأن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفظه كما قال فى كتابه الكريم: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وهذا الحفظ وإن تكفل الله به لكنه قد جعل له أسبابا يقدرها وسننا يصرفها كما قال فى كتابه العزيز (فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا) ومن هذه الأسباب وتلك السنن الثابتة أنه سبحانه يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة دينها، وكلمة (مَن) فى اللغة العربية كما تصدق على الفرد تصدق كذلك على الجماعة فيمكن أن يكون المجدد شخصا واحدا من أهل العلم المستنيرين كذلك يحتمل أن يكون المجدد للدين مجموعة من العلماء المستنيرين الذين يقومون بهذه المهمة بمجموعهم، وعندما نتأمل كلمة (يجدد) الواردة فى الحديث النبوى الشريف نجدها تستعمل فى لغة العرب فى إعادة ما يبلى ويصيبه القِدَم إلى حالة يبدو فيها جديدا وكأنه صُنِعَ للتَو، فالجديد عكس القديم البالى وبالتالى فهؤلاء المجددون يعيدون لهذا الدين نضارته وقوته وحداثته وبريقه الذى قال الله عنه فى كتابه (ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ونحن نعلم يقينا أنهم لن يضيفوا شيئا إلى نصوص الدين فالنصوص هى النصوص وبالتالى ما يقوم به هؤلاء المجددون أنهم يعيدون لهذا الدين بريقه وقيمته وقِيَمه وإن شئنا قلنا إنهم يحيون مبادئه العظيمة وأخلاقه القويمة وهذا هو الذى يصيبه القِدَم فالمشكلة ليست فى النص وإنما فى فهمه وما يترتب على هذا الفهم من فكر ورؤية وهو ما يسمى فى المصطلح القرآنى (بصيرة)، وكذلك ما ينبنى على كل ذلك من سلوك وأخلاق وتعاملات مع الغير فيحصل الإحسان لخلق الله كما يحصل فى عبادة الله، وعليه فالأزمة التى تواجه هؤلاء المجددين هى أزمة معانى لا نصوص، وبالتالى هى أزمة فهم وأخلاق وسلوكيات يترتب عليها ظهور تيارات غريبة على المجتمعات تدعى التدين وهى تسىء إلى الدين كما تسىء إلى المجتمعات والأوطان من حيث تدعى الإحسان بل وتفسد فى الأرض بدعوى الإصلاح والجهاد، وفى هذا المقام يفرض نفسه علينا قول الشاعر:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ومن ثم يحرص المجددون على تصحيح المفاهيم وإصلاح الأخلاق وتصحيح المسار العلمى والعملى، وإحياء فريضة الاجتهاد القائمة على التدبر والتفكر والتفقه الحقيقى، لا مجرد التقليد لمن سبق دون فهم، مع أن من سبق لم يكونوا أبدا مقلدين لبعضهم البعض، وإلا لما اختلفوا، ولكانوا مجرد صور بالكربون، كما يقال، وهذا لم يكن قط بل عاشوا أزمنتهم وأمكنتهم بما يناسبها، وإن شئت قلت عاشوا بروح النص لا بمجرد الألفاظ والكلمات، ولهذا وضع الإمام الشافعى، رحمه الله، فى زمانه ما يسمى بعلم أصول الفقه حتى لا يضيع الدين بدعوى اتباع النصوص دون فهم لهذه النصوص، فكان واحدا من المجددين بحق لهذا الدين، وكذلك حرص هؤلاء المجددون على بيان المقاصد الشرعية التى دار حولها الشرع كله وهى باختصار تحصيل كل ما هو مصلحة للحفاظ على النفس والعرض والعقل والمال والدين ذاته، كذلك حتى قال بعضهم: «حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله ودينه»، أى حتى وإن لم يكن منصوصا عليه، هكذا كان سلفنا الصالح أحرص الناس على فهم الدين بجماله وكماله وشموله وإجماله ويخضعون التفاصيل للكليات لا العكس، لكن مما يؤسف له أننا ابتلينا فى هذه الأزمان بأقوام ينتسبون إليهم ويسيئون إليهم كما رأينا أقواما ينتسبون للإسلام ويسيئون إليه، ولذلك ينبغى عدم الاغترارلا بهؤلاء ولا بأولئكم وإن سموا أنفسهم بأجمل الأسماء وانتسبوا لأحسن النسب فالعبرة بالحقائق لا بالدعاوى والشعارات، فالإسلام والسلف الصالح وجهان لعملة واحدة فالوحى المنزل من السماء هو دين الإسلام الذى أتم الله به النعمة قائلا: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا)، والسلف الصالح هم الصحابة رضى الله عنهم وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون الأربعة والتابعون لهم بإحسان، وعلى رأسهم الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبدالعزيز الذين قال الله فيهم: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه)، هم النموذج الواقعى الذى تمثل فيه هذا الدين على الأرض، ورآه الناس فدخلوا فى دين الله أفواجا، وانتشر هذا الدين بسببهم إلى أن وصل إلى القارة الأوروبية، حيث كانت الحضارة الأندلسية والتى كانت وقودا للحضارة الأوروبية الحديثة التى على أكتافها قامت الحضارة الأمريكية المعاصرة، فلولا الفهم الصحيح عند الصحابة وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون لما حدث شىء مما ذكرته آنفا، فالفهم المستنير للدين ممثلا فى مكارم الأخلاق وما ترتب على ذلك من حضارة وعمارة للأرض هو السبب الأساسى فى كل هذا الخير، ومما يؤسف له أنه كان يخرج بين الحين والآخر نوابت وتيارات ظلامية تعوق هذا المسار المتجدد، وهذا النهر المتدفق بالخير كما حصل من الخوارج الأشرار قديما وما رأيناه من تلاميذ مدرسة الخوارج فى زماننا ممن يسمون أنفسهم بالإسلاميين أو التيار الإسلامى، أو ما يعرف إعلاميا بتيار الإسلام السياسى، وهى أسماء ما أنزل الله بها من سلطان فلا وجود لها لا فى كتاب الله، ولا فى ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وثمارهم أكبر دليل على أنهم أتباع الخوارج لا أتباع الإسلام ولا أتباع السلف الصالح، لكنهم جمعوا بين أعظم جريمتين وقع فيهما أدعياء التدين على مدار الزمان، وهما التجارة بالدين والإساءة إليه، كما قال الله فى كتابه عن رجال الدين الفاسدين من الأمم السابقة «يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله»، وأصدق مصطلح ينطبق على هذه العصابات الإجرامية والتيارات المتطرفة المدعية للتدين زورا وبهتانا أنهم «المتأسلفون»، أى أدعياء الإسلام وأدعياء السلفية المتاجرين بالدين، وبالأسلاف الصالحين، ويمكننا تقسيم هؤلاء المتأسلفين إلى قسمين فرعيين التيار المتأسلم، وعلى رأسه التنظيم العصابى المتسمى زورا وبهتانا بالإخوان المسلمين والتيار المتسلف، وعلى رأسه التنظيم المسمى زورا وبهتانا بالجمعية السلفية، وكلهم فى الحقيقة قطبيون يتبنون فكرة سيد قطب المعروفة بالحاكمية، وهى بنت فكرة الخوارج القدامَى، لأن النتيجة واحدة وهى الإفساد فى الأرض بزعم أنهم أصحاب المشروع الإسلامى ومن لا يتفق معهم جاهلو وقتلاهم فى الجنة وقتلى من يخالفهم فى النار والفصيل المتسلف منهم يرمى كل من يخالفه بأنهم مبتدعة وضالون على أقل التقديرات، وأحيانا يصل الأمر إلى الاتهام بالشرك والكفر واهتمامى فى هذا المقال بالتيار المتسلف بالدرجة الأولى، حيث انتسب إلى نفس النسبة مبرئا إياها من جرائم هؤلاء الأدعياء، متهما لهم بكذب دعواهم كما أُبَرِّءُ الإسلام من المتأسلمين، وأنهم لا يمثلون هذا الدين فكذلك هؤلاء المتسلفون لا يمثلون السلف الصالحين، بل هم على خلاف منهجهم تماما، فكيف تجتمع أفكار سيد قطب مع سنة الخلفاء الراشدين فلا يمكن أن يكون القطبى سلفيا ولا يمكن أن يكون السلفى قطبيا ولا ننسى أن الخوارج الأُوَل كان شعارهم المرفوع «لا حكم إلا لله»، فالمدخل هو المدخل والنتيجة هى النتيجة، وصدق من قال قديما من الحكماء «من ثمارها تعرفونها»، ويمكننا جمع أخطر ما وقع فيه هؤلاء المتسلفون فى نقاط رئيسية تتلخص فيم يلى:
أولا: تبنيهم للتَقِية عمليا رغم دعواهم النظرية أنهم ضد الشيعة، وأن التَقِية مبدأ من مبادئ الشيعة وليست من مبادئ أهل السنة، لكن تبنيهم للحاكمية القطبية جعلهم يستحلون نفس المسلك بسبب نزولهم للملعب السياسى، ويسمون ذلك الخداع والمكر بغير اسمه، فإذا ما ضيق عليهم فى ما يمارسونه خلاف اعتقادهم المعروف عنهم فى كتبهم ورسائلهم ونشراتهم وتسجيلاتهم ومقاطع الفيديو والقنوات الفضائية قالوا: «نعم ليس هو المطلوب لكنه المتاح»، وهذا مجرد تلاعب بالألفاظ فكيف يصح مثل هذا فى شىء تدعون أنه من أصول الاعتقاد، بل من معانى كلمة التوحيد، فتراهم فى كلامهم فى الدين يؤكدون أن الديمقراطية كفر ولا تمت للدين بصلة، ثم هم يمارسون الممارسات الديمقراطية بوسائلها المعروفة فى الدنيا كلها، وينافسون فى الانتخابات ويتكلمون عن شرعية الصناديق، وكل هذا بدعوى أنه المتاح لا المطلوب، وهذا مكمن الخطر لأن معناه أنهم يستخدمون وسائل لا يؤمنون بها ليصلوا بها إلى سلطات يتمكنون من خلالها أن يحققوا مشروعهم المزعوم والذى من ضمنه إلغاء كل هذه الوسائل التى وصلوا من خلالها بدعوى أن الشريعة الإسلامية هى التى تقتضى ذلك، ولذلك يحاولون وضع مواد فى الدستور يستطيعون من خلالها مستقبلا أن يحققوا مرادهم ويمرروا ما يشاءون من قوانين فى البرلمان فيما بعد، هذا فى الواقع هو عين مبدأ التقية الشيعية ولا معنى لذلك إلا أن هؤلاء المتسلفين لا دين لهم إلا المكر والخداع شأنهم شأن إخوانهم المتأسلمين يكذبون كما يتنفسون.
ثانيا: عدم إيمانهم بالمواطنة ولا بالوطن، وإن زعموا خلاف ذلك تقية كما سبق فهم لا يعتبرون أنفسهم مجرد مواطنين عاديين، وذلك لأنهم أصحاب المشروع الإسلامى بزعمهم، وبالتالى يعتبرون أنفسهم خلفاء الله فى الأرض ووكلاءَه، وينظرون إلى كل من ليس معهم من المصريين على أنهم أعداء للمشروع الإسلامى المزعوم، وبالتالى فهم أعداء الإسلام من العلمانيين وأشياعهم، ومن أوضح الأدلة على موقفهم الحقيقى ومن الوطن والمواطنة، أنهم لا يقفون للسلام الوطنى ولا لتحية العلم ولا حدادا على شهداء الوطن حتى ولو كانوا من المسلمين، ولا تغتر بكلام بعضهم أن ذلك لاعتقادهم حرمة الموسيقى أو بدعية الوقوف حدادا فحسب، بل لأنهم لا يؤمنون بالوطن ولا بالمواطنة، بل غالبهم يصرح بأن الوطن وثن والعلم صنم، وأن الانتماء الوحيد المشروع إنما هو للدين والهوية الوحيدة المشروعة هى الهوية الإسلامية، فلا فرق بينهم وبين إخوانهم من المتأسلمين القائل مرشدهم السابق «يحكمنى ماليزى مسلم ولا يحكمنى مصرى مسيحى وطظ فى مصر».
ثالثا: تقديمهم للنص بحسب فهمهم له على العقل، حتى وإن كان غاية فى الصراحة والوضوح فيقعون فى كثير من التناقضات، بل مواقف لا تجد لها اسما ولا وصفا إلا المضحكات المبكيات، ويزيد الطين بلة أنهم يصفون تلك المهازل بأنها الشرع والدين ولو أنهم اكتفوا بادعاء أنه فهمهم لهان الخطب، إنما المصيبة فى دعواهم أنه الدين الذى لا تجوز مخالفته أو التعدى عليه فتسمع أحد قيادييهم عندما بلغه استشهاد عشرات الشباب فى مذبحة استاد بور سعيد يقول: إنهم شهداء اللهو المحرم ولا يخجل أن يصف أدب نجيب محفوظ بأنه أدب دعارة، والمصيبة أنه يعتبر هذا هو الشرع والدين وليس مجرد فهم يخصه، وكما أعلنوا حربا بين الوطنية والدين كذلك اخترعوا تناقضا بين صريح المعقول وصحيح المنقول لا وجود له إلا فى أذهانهم العقيمة وأفهامهم السقيمة.
رابعا: استحضارهم لمسألة تحريم الخروج على الحكام بحسب هواهم وبما يخدم مصالحهم وعندما لا تكون فى مصلحتهم يغيبونها أو يخالفون ما كانوا يشيعونه دائما مما هو مشهور عنهم، فلا تجد ضابطا ولا رابطا للمسألة إلا التلاعب بالكلام والمكر والخديعة، وأن الغاية عندهم تبرر الوسيلة شأنهم شأن إخوانهم المتأسلمين تماما.
هذه هى أهم النقاط التى تلخص ما يتصف به التيار المتسلف، إضافة لما يجمعهم مع إخوانهم المتأسلمين من صفات ذميمة تجعلهم فى خندق واحد ضد الوطن والدين تحت عنوان واحد هو «المتأسلفون» فلا ينبغى الاغترار بهم ولا ينبغى تصديقهم بعد ما تبين من مكرهم وخداعهم ولا يجوز لنا التهاون فى حق الدين والوطن، أو أن نسمح لأحد أن يخدعنا مرة أخرى فنبينا الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم حذرنا قائلا: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين»، فالحذر الحذر من المتأسلمين والحذر الحذر من المتسلفين، والحذر الحذر من كل متاجر بالدين، والحمد لله رب العالمين.
المتسلفون المنتمون للإسلام السياسى هم أتباع الخوارج لا أتباع الإسلام والسلف الصالح.. الفصيل المتسلف يرمى كل من يخالفه بأنهم مبتدعة وضالون وقد يصل الأمر إلى الاتهام بالشرك والكفر
الأحد، 11 أكتوبر 2015 12:58 م
أسامة القوصى
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة