"أسرار الصورة بين الرمز والدلالة
لم تَعُد صناعة الصورة حِكراً على الفنانين التشكيليين فقط، ولم يَعُد مداها قاصراً على استشعار الجمال وتأمُّل الإبداع البصري؛ إذ أصبحت الصورة إحدى أشَدّ وسائل الاتصال تأثيراً فى ثقافتنا المعاصرة، وعن طريقها يجرى إرسال ملايين الرسائل الذهنية، التى تتخلل اللاوعى بكفاءة، لتُرَسِّخ فيه انطباعاتٍ ومشاعر ومفاهيم، ولتُحفِّز من خلاله ردود أفعالٍ وسلوكيات شتّى، كثيراً ما تكون مُوَجَّهةً ومقصودةً ومدروسةً بعناية، وهو ما يجرى استغلاله فى مجالاتٍ متعددة، تأتى فى مقدمتها: صناعة السينما، وصناعة الدعاية والإعلان، والإعلام، ونُظُم التصميم الجرافيكى والصناعي، وغيرها من المجالات التى صارت تقوم على دراساتٍ تستفيد من جهود علومٍ إنسانية متعددة، كعلم النفس بفروعه، والأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع، بما أدّى لتأسيس فروعٍ بحثية جديدة، تتناول الصورة باعتبارها وسيطاً اتصالياً مؤثراً، مثل مجال: الاتصال البصرى Visual Communication، والثقافة البصرية Visual Culture، وعلم الاجتماع البصرى Visual Sociology، وغيرها من المجالات التى باتت تلعب دوراً جوهرياً فى توجيه المزاج الجمعى وشحنِه والتأثير عليه.
فى إطار هذا الفهم قد يجوز أن تُعاد قراءة الكثير من صور الشخصيات والأحداث وفق مداخل غير تقليدية، وبخاصةٍ تلك الصور التى شهدت رواجاً إعلامياً كاسحاً، وأن تُجرَى محاولات تفسير بعض المُشابَهات - بل والتطابُقات - بينها وبين صور مَثيلة سابقة لها فى التاريخ؛ وهو ما تجسده تلك المقارنة، بين صورَتَين لـ"جريجورى يفيموفيتش راسبوتين" (1869 – 1917) راهب روسيا الماجِن الغامض، وأحد أهم أسباب انهيار حُكم سلالة "رومانوف" بها، وصورتَين أُخرَيَين لـ"أبى بكر البغدادي" (1971)، القائد الحالى لكيان "داعش"، الذى لَقَّبَ نفسه بلقب (خليفة) ما يُعرَف بالدولة الإسلامية فى العراق والشام.
ربما كانت نقاط التشابه بين الصور الأربع أوضح من أن يُعاد وصفُها، غير أن الجدير بالتنويه هنا - فى حالة "البغدادي" - هو كيفية توظيف طُرُز الثياب ذات المرجعية الشرقية التراثية، التى تستدعى فتراتٍ تاريخيةٍ معينة، ترتبط بإسقاطات وجدانية وذهنية، يتقاطع فيها العنف والاضطراب السياسى مع الروحانيات، إضافةً لانتقاء السَواد تحديداً، بما له من تداعيات رمزية مؤثرة، طالما لعبت دوراً فى فتراتٍ مشحونةٍ بالعنف - الفترة التأسيسية للدولة العباسية نموذجاً - وفى كثيرٍ من نُظُم الجمعيات السرية المثيرة للجدل عبر التاريخ.
أما وضع اليد اللافت للانتباه فى الصور الأربع، فربما لا يقل أهميةً فى رمزيَّته عن رمزية طراز الملبَس ولونه؛ إذ إنه ينتقل بالصورة، فى الحالتين، إلى سياق رمزى مفتوح على تأويلات متعددة، تلعب فيها النُظُم الإشاريّة والمعانى المُشَفَّرة لإيماءات الجسد دوراً مهماً، يرتبط بالدرجة الأولى بتراث مُلتَبِس، يتواتر فيه حضور نماذج متباينة من الجمعيات السرية، والتنظيمات السياسية، والتجمعات المناهضة للثقافات السائدة بالمجتمعات؛ الأمر الذى يتجاوز مثالَى "راسبوتين" و"البغدادي"، إلى أمثلةٍ أخرى، انفصل فيها الشِقُّ الروحانى عن نظيره السياسي، ليلتحم بالعوالم السوداء لممارَسات الشعوذة والطقوس الشيطانية؛ وهو ما يتجلّى على نحوٍ مباشر فى نموذَجَي: "أليستر كراولي" Aleister Crowley (1875 – 1947)، أشهر سحرة القرن العشرين ومُهَرطقيه.
مصدر الصورة:
مصدر الصورة:
وكذلك "أنطون لافي" Anton Lavey (1930 – 1997)، أشهر مؤسسى كيانات عبادة الشيطان خلال القرن الماضي.
مصدر الصورة:
فضلاً عن أن هذه الإشارة تحديداً تُعرَف فى مصطلحات الماسونية باسم "إشارة دو جارد"
Due-guard of a Fellow Craft sign
وهى إشارة رمزية خاصة بأعضاء الماسونية، مِمَّن يحملون الدرجة التى تُعرف باسم "مرتبة أهل الصنعة" Fellowcraft Degree، وتمثل هذه الدرجة - حسب الفكر الماسونى - مرحلة النضج والمسؤولية. وفى هذه المرتبة يتعرف العضو على التفاصيل الدقيقة لمعانى الطقوس المتبعة فى الماسونية ورموزها. وتُعتبَر تلك الدرجة مرحلة متوسطة بين مراحل ثلاث، أولها مرحلة "مرتبة المبتدئ" Entered Apprentice Degree، وأعلاها مرحلة "مرتبة الخبير" Master Mason Degree. وبين هذه المراحل أو المراتب الثلاث تتوزع درجات الماسونية، البالغ عددها 33 درجة.
وتُعَدّ حركة اليد المبسوطة ما بين منطقتى البطن والصدر إحدى أشهر رموز "مرتبة أهل الصنعة" وأهمها؛ هو ما يشرحه بالرسم كتاب "المُرشِد للماسونية" Richardson: Monitor of Freemasonry، فى صفحته الثانية والعشرين
المصدر:
وهناك تنويعات متعددة لهذه الحركة، ارتباطاً برفع اليد الأخرى، وهو ما تبينه بعض صفحات كتاب "معبد القٌبّة المورموني" Mormonism's Temple of Doom, by William Schnoebelen and James Spencer
المصدر:
وقد اشتهر بأدائها عددٌ من أهم أعضاء الكيانات الماسونية العالمية؛ مثل "إليزابيث ألدوورث" Elizabeth Aldworth (1695 – 1775)، أول امرأة فى العالم تنتمى رسمياً للمحافل الماسونية، التى كانت عضويتها قبل ذلك قاصرة على الرجال فقط.
المصدر:
عند هذه النقطة، ألا يَحسُن أن نتأمل بعض الوقائع، التى ربَطَت بين بعض الشخصيات الشهيرة عالمياً – سواءٌ منها الشخصيات التاريخية الحقيقية، وتلك الفنية التى ترَسَّخَت كأيقونات فى الوعى العالمى – وجميعها شخصيات اشتهرت لها صورة أو أكثر، اعتمد تكوينها على حضور هذه الحركة الإشاريّة بشكل أساسي؟ ألا يمكن أن يسهم استعراضنا لبعض الحقائق، المستقاة من سِيَر هذه الشخصيات، الواقعية والفنية، إلى بيان بعض الصلات المشتركة بينهم؟ فلنترك للصور والمعلومات مهمة تأكيد ذلك أو نفيه:
1- "كريستوفر كولمبوس" (1451 – 1506) مكتشف القارة الأمريكية، والمتهم بالتسبب فى مقتل 250 ألف إنسان من سكان أمريكا الأصليين خلال عامين فقط، لأنه كان يعتبر أرواح الهنود الأصليين أرواحاً غير بشرية، بل حيوانية تقريباً "لا تستحق النعمة ولا يشملها الخلاص الإلهي". ومن الفظائع التى ارتكبها فى جزر الكاريبى تقديم العديد من سكانها طعاماً للكلاب المدربة، بالإضافة لتعذيب الآلاف بقطع أجزاء مختلفة من أجسادهم، واغتصاب النساء بعد استعبادهن. واللوحة المرسومة لشخصية "كولمبوس" من أعمال الفنان الإيطالى "سباستيانو ديل بويمبو" (1486 – 1547).
2- "جريجورى راسبوتين" (1869 – 1916)، راهب روسيا الماجن الغامض، الذى أفلح فى السيطرة على أسرة آخر قياصرة روسيا، دافعاً بالبلاد نحو حافة الهاوية، بعد إمعانٍ فى انتهاك الحُرُمات، والتورُّط فى العديد من الاغتيالات السياسية والممارَسات الغريبة المُستَنكَرة.
3- "أليستر كراولي" (1865 – 1947)، أحد أشهر ممارسى طقوس السحر الأسود فى القرن العشرين، ومؤسس العديد من الجماعات والشعائر السرية والشيطانية. اتُّهِم "كراولي" فى عدد من حوادث القتل الغامضة، كما تورط فى العديد من الأحداث ذات الطابع الاستخباراتي، والتى أسفرت عن مصرع المئات.
فى الوقت نفسه، استفادت السينما العالمية من الدلالات المعقدة لهذه الحركة، وظهر فهم بعض المخرجين ومُديرى التصوير، فضلاً عن مُصَمِّمى المطبوعات والملصقات السينمائية، للمعانى الرمزية المختلفة التى تعكسها.
وقد ظهر ذلك من خلال بعض الأمثلة، من اللقطات المميزة فى بعض الأفلام الشهيرة، والتى ارتبطت بتجسيد شخصيات تعكس التجلّيات المختلفة للشر والتعصب والخروج عن القانون؛ وهو ما يمكن توضيحه من خلال شخصيتين سينمائيتين، صارت أولاهما أيقونة لفكرة الزعامة والهيمنة على التشكيلات العِصابية ذات النفوذ، التى تُديرها فئة من الأشخاص فى إطار من السرية والغموض، بينما صارت الثانية رمزاً لمفهوم العنف القائم على العنصرية، تنفيذاً لأفكار جماعات عِرقية متشددة، تعمل ضِمن تنظيمات خارجة على القانون.
والشخصية الأولى هى شخصية "فيتو كورليوني" عميد إحدى أقوى عائلات المافيا الإيطالية المتمركزة بمدينة نيويورك الأمريكية، والمهيمن على نشاط صالات الميسر وبيوت البغاء، وصاحب الأنشطة المشبوهة التى تدور فى إطار من روح الانتقام والتصفيات الدموية. وقد جَسَّد هذا الدور النجم العالمى "مارلون براندو"، فى الجزء الأول لفيلم "الأب الروحي"، من إنتاج عام 1972. وقد وَرَدَت الحركة فى أحد أشهر مشاهد الفيلم؛ ضِمن حوار لـ"فيتو كورليوني"، بُنِى عليه تسلسل أحداث القصة فى أجزاء الفيلم المختلفة.
أما الشخصية الثانية، فقد ظهرت فى فيلم American History X، من إنتاج عام 1998، وهى شخصية "ديريك"، الشاب الذى انخرط فى نشاط عنصرى يقوم على إحياء النازية، متورطاً فى قتل بعض جيرانه من ذوى البشرة السوداء. وقد جَسَّد هذه الشخصية الممثل الأمريكى "إدوارد نورتون" ببراعة. وظهرت دلالة الحركة فى لقطة من الفيلم، تم اختيارها لتصميم مُلصَق الفيلم، لترتبط حركة اليد المذكورة بشعار الصليب المعقوف، رمز النازية الشهير، موشوماً فوق قلب بطل الفيلم، فى رمزية لا تحتاج لعناء كبير فى بيان مدلولاتها.
تُرى، هل هى محضُ مصادفاتٍ بالجُملة؟
إن تأمل السياقَين الثقافى والرمزى لكل شخصيٍة من تلك الشخصيات، ومراجعة الأدوار التى لعبها كلٌ منهم على المستويَين التاريخى والاجتماعى العالمى – وكذلك الدلالات التى ارتبطت بالشخصيات الفنية والسينمائية منهم - كل هذا من شأنه أن يُغرى بالشك فى احتمالات المصادَفة، أو يدعو لإعادة التفكير فيها على أقل تقدير.
وتبقى الصورة إحدى أهم وسائط التأثير والمراوَغة والإيحاء، وأكثرها إثارةً للفرضيّات والاحتمالات والتأويلات، وأجدرها بالجدل والنقاش وإعادة التأمل المتحرر من المُسَلَّمات الجاهزة.
موضوعات متعلقة..
بالصور.. "ياسر منجى" يقدم أركان صياغة النَصّ النقدى بـ"جمعية محبى الفنون"
عدد الردود 0
بواسطة:
دكتور علم نفس
ايه يا عم الكلام ده ...و الله ما فهمت شيئ ....
عدد الردود 0
بواسطة:
عزت
مجرد تعليق
مقال مفيد، بس معقد الفهم و توصيل المعنى!!
عدد الردود 0
بواسطة:
ايمن
مقال مهم
عدد الردود 0
بواسطة:
مصطفى علي
مقال رائع ومفراداته أرى إنها سهلة وواضحة