الله خلقنى كاتبا، عدا ذلك مكملات "هذه المقولة من أقوال الأديب الكبير الراحل جمال الغيطانى، الذى رحل عنا ونحن فى أمس وأشد الحاجة لمثله من الآدباء والكتاب والمفكرين وأصحاب الرؤى المستنيرة، وإن كان مثل هؤلاء يعد على الأصابع، فمن النادر أن نرى قيمة وقامة عربية وعالمية مثل أديبنا الراحل جمال الغيطانى.
أريد أن أسلط الضوء على بعض ملامح أديبنا الكبير، الذى أسرى الحياة الفكرية والأدبية والثقافية والتاريخية، لنجعلها لنا نبراسا ونورا يضيئان لنا طريقنا الذى اشتد به ظلام الفكر واختلط العاطل بالباطل واصبحنا الان نتخبط ونترنح فى غياهب ظلمات الجهل والفكر:
بين التاسع من مايو 1945، والثامن عشر من أكتوبر 2015 ملامح وعلامات بارزة فى حياة الغيطانى من اهمها يوم تقلد وسام جوقة الشرف الفرنسى العام الماضى، ويقف الحكاء الجنوبى على أعتاب عامه السبعين حاملا كتفيه طفولة خضراء فى مرابع مركز جهينة السوهاجية ودراسة متوسطة لم تسعفه الظروف الأسرية والحياتية لاستكمالها كاغلب المبدعين من أبناء جيله، أبناء جيل السيتينات، وإلى جوارهما يحمل تاريخا مهنيا عتقته مشاوير وتجليات "صاحبة الجلالة" بدءا من العمل كمراسل حربى على الأعوام الستة الصعبة ما بين النكسة والنصر، ووصولا إلى تأسيس ورئاسة تحرير جريدة "أخبار الأدب" المطبوع المتخصص والأول من نوعه فى مصر والمنطقة العربية، الذى مثل حلما وابنا بكرا من أبناء الغيطانى، وظل قائما وقيما عليه طيلة سبعة عشر عاما تقريبا.
وبين التجلى الأول فى فضاء الحياة، والتجلى الاحدث فى فضاء الابداع والتكريم، مسيرة من الإنجاز الإبداعى والثقافى، اتصلت بالعام والمؤسسى والتنفيذى كاقصى ما يكون الانفصال، وانفصلت عنهم كاقصى ما يكون الاتصال، فظل الميزان متزنا ومعايرا للخطوة والبوصلة الثقافية والقيمية للوزان، دون أن يفتئت على الواقع أو ينغمس فى تشوهه وتعقيداته، فكان الناقد الفاعل والمقوم لعوار المؤسسة فى إرساء وتدشين خطى ثقافية يراها مفيدة ودافعة وحافزة للمتلقين والمبدعين، بين مؤتمرات ورحلات خارجية وسلاسل نشر ولجان ادبية تتبع وزارة الثقافة والمجلس الأعلى للثقافة.
الكتابة الخاصة والاستثنائية تلك التى فتح بها الغيطانى مساره السردى والروائى الجديد منذ مفتتح عمله الاول " اوراق شاب عاش منذ الف عام " مرورا بمنجزه الروائى المتميز فى الفضاءات السردية العربية مثل: (الزينى بركات، حارة الزعفرانى، التجليات، ) بالإضافة إلى نصوصه المتفردة حول المدينة الأثيرة القاهرة المحروسة وأسرارها فى التاريخ، ومكنوناتها فى البشر وحركة الحياة والمعمار وموسيقاه التى تنساب عندما يقترب منه العشاق المتيمون بسيمفونيات الحجر ومتتالياته وبنياته وتشكيلاته، وبالفعل المعمارى وجماليات الايادى الخشنة التى تبدع جمالها وروحها الوثابة المتحضرة فى عملية البناء.. كتابة ملهوفة دائما بالانسان المصرى وعمق اعماقة فيما وراء التاريخ المكتوب وما بعده، وتحاول أن تستنطق عبقريته فى الزمان، وفى البناء.
كتابات الغيطانى ولغته جاءت من الابحار فى لغة الحجر والعمارة ومن الموسيقى الطالعة من احجار المعابد القديمة، ومن التماثيل والايقونات، وقلايات الرهبان فى الاديرة المصرية، ومن حوائط المساجد العريقة وجماليات منابرها الخشبية ومقرنصاتها وقبابها، ومن توزيعات النور والظل فى تشكيلاتها، ومن فضاءاتها الداخلية، وموسيقى الاذان، وقراءات القران الكريم وتلاواته على تعددها، وتنوع اصوات كبار الكبار من المقرئين الذين حملوا فى اصواتهم العذبة الجميلة، حلاوة المقدس وتجليه فى النص رفيع المكانة والمقام، لغة طالعة من انشاد المنشدين، وتضرع الباحثين والطالبين للمغفرة وحسن الثواب.
ايضا من العلامات الفارقة قى حياة الغيطانى والده الروحى الاديب العالمى نجيب محفوظ حيث كانت تجمعهما صداقة قوية منذ عام 1959 وصلت إلى الحد الذى جعل كل منهما مستودعا لسر الاخر لكن كل ذلك على المستوى الانسانى، اما على المستوى الفنى فاختلف معه تماما لان مشروع نجيب محفوظ كان يعتمد على كتابة الرواية على نهج الرواية الغربية، اما مشروع الغيطانى الادبى فهو قائم على إعادة الرواية العربية إلى اصلها القديم.
هكذا رحل أديبنا الكبير عن عالمنا بجسده، ولكن أعماله وتجلياته ورواياته الممزوجة بعبق التاريخ وشوارع القاهرة العتيقة باقية وخالدة إلى أبد الدهر.
محمد حمادى يكتب: جمال الغيطانى.. شاب عاش ألف عام
الخميس، 22 أكتوبر 2015 02:32 م
الأديب الكبير الراحل جمال الغيطانى