ضاق به الحال فى القاهرة المكتظة بأهلها وبغير أهلها.. القادمون من الأقاليم وأقصى الصعيد باحثون عن حلم ضائع وزحام يبتلع همومهم ومآسيهم.. هاربون من جحيم الفقر وشر السؤال.. وأفواه مفتوحة تريد أن تشبع خبزًا.. وأجساد مرتعشة من برد الشتاء.. تلتمس الدفء فى جلباب وغطاء، إنه واحد من هؤلاء القادمين البائسين الباحثين عن كسرة خبز وبقايا ثوب لأمه وأخواته. ولكن لم يحالفه الحظ فى المدينة الكبيرة، جلس على أحد المقاهى الكائنة فى أحمد حلمى يحتسى الشاى. أخرج من جيب قميصه المفكرة والقلم اللذان لا يفارقانه أبدًا منذ أن ترك مدرسته الثانوية ولم يستطع أن يكمل تعليمه بكلية التجارة جامعة أسيوط.. ومن أين له بمصاريف الدراسة والإقامة بعد أن توفى والده العامل البسيط وترك له خمسة من الأخوة والأخوات الأصغر منه ووالدته. أخرج سيجارة من الأربعة (الفرط) التى ابتاعها للتو.. وأخذ يقلب فى مفكرته حتى وجد رقم تليفون سعد، أحد أبناء قريته والذى تربطه به صداقة، وهو يعمل بأحد المصانع بمدينة العاشر من رمضان، أخرج من جيبه تليفونه المحمول عتيق الطراز والذى أعطاه له دكتور شهير بمصر الجديدة كان يقوم بنقل بعض المنقولات لشقته، ضرب الرقم ورد عليه سعد.. وبعد السلامات والتحية والأشواق.. شكا له عزيز سوء الحال.
عزيز: مالقيش عندك شغل يا سعد فى المصنع اللى أنت فيه أو أي مصنع تاني؟
سعد: هما حاليًا عايزين ناس فى المصنع اللى أنا فيه.. تعالى اشتغل وحط رجليك فى المكان.. بعد كده دور على شغل تانى براحتك.
عزيز: خلاص ماشى أنا جايلك النهاردة
سعد: وأنا هستناك.. لما توصل "الأردنية".. موقف الأتوبيس فى العاشر.. كلمنى وأنا هاجيلك أو هاوصفلك تجيلى أقرب مكان ليه.
عزيز: خلاص.. سلام.
أكمل عزيز كوب الشاى حتى الرشفة الأخيرة ولفظت السيجارة أنفاسها الأخيرة حتى كادت أن تحرق أصابعه. أحكم ربط الحبل على بطانيته القديمة والتى تحوى بداخلها كل ما يملك من حطام الدنيا من ملابس رافقته خلال الستة السنوات الأخيرة من حياته. أخرج من جيبه قطعتين معدنيتين فئة الواحد الجنيه ووضعها فى يد القهوجى.
اتجه إلى موقف الميكروباص المواجه للمقهى وسأل عن الميكروباص المتجه للعاشر من رمضان.. أشار له أحد السائقين على أحدها.. اتجه إلى الميكروباص الذى يحتل مقدمة الصف وبه بعض الركاب.. وقبل أن يضع قدماه داخل الميكروباص سأل عن الأجرة فأجابه أحد الركاب بأنها ثمانية جنيهات. ركب وهو يحمد الله أن معه ما يكفى الرحلة، وبعض جنيهات إضافية تكفيه عشاء الليلة من طبق فول ورغيفين وربما أيضا إفطار الغد.. وقد قال له سعد عبر الهاتف إنه يمكنه أن يتعامل بالآجل مع دكان البقالة القريب من مسكنهم حتى يحصل على مرتبه أول الشهر.
تحرك الميكروباص محاولاً أن يشق طريقه وسط زحام القاهرة القاتل.. وما أن وصل الدائرى حتى بدأ عزيز يأخذ نفسًا عميقًا.. فهو يشعر بنشوة وسعادة لا يدرى سرها عندما تنطلق به سيارة أو قطار.. فكأنما روحه تنطلق أيضا معها وتكاد تسبقها أحيانًا.. خاصة لو لمكان جديد لم يشتم رائحته من قبل.. ولم تصافح أقدامه شوارعه ومقاهيه.
مضت ما يقرب ساعة من الزمن حتى وصل "الأردنية"، وقبل أن يعاود الاتصال بسعد نظر ذات اليمين وذات اليسار.. وهو واثق من أنه سيجدها.. وهى واقفة بزيها الأحمر الشهير، ملتفًا حولها العديد من عشاقها.. وإن شئت قل دراويشها.. سأل عنها صاحب أحد المحلات فأشار بأصبعه ناحيتها.. فوجدها واقفة كعادتها وسط عشاقها ومحبيها، فسار نحوها مسرعًا وكأنه لم يرها منذ سنوات، على رغم من أنه رأها هذا الصباح.. وعندما اقترب منها جدًا.. قال: واحد فول بالزيت الحار وحياة أبوك!
وبعد أن مسح الطبق بآخر لقمة فأصبح الطبق صالح للاستخدام مرة أخرى دون غسيل.. اتصل بسعد صائحًا: أيوه يا سعد.. أنا فى الأردنيه.. اعمل ايه
سعد: اركب ميكروباص خط 6.. وأنزل عند النادى اللى قصد المجاورة 66.. وأنا هاجى اخدك
وعندما وصل عزيز كان سعد فى انتظاره، وأخذه إلى الشقة التى يقطن فيها مع 6 من زملائه وأصبح هو صاحبهم الثامن.. استلقا على مرتبة موضوعة على الأرض.. وبينما رفاقه يتحدثون معه راح فى ثبات عميق.. وإذا بكل مشاكله وهمومه تتلاشى فى أحلامه.. ويصبح إنسان آخر.. يعمل بأجر يصون كرامته ويكفى ضروريات عائلته.. يكمل تعليمه ويرتبط بفتاة جميلة رقيقة، تحبه ويحبها.. ويعيش حياة عادية هادئة.. مجرد حياة عادية أو حتى أقل من العادية .. ياله من حلم جميل يعيشه كل ليلة.. يهبه الأمل والقوة ليعيش يوم آخر من القلق والتوتر والمعاناة.. وهو يدعو الله أن يأتى الليل سريعًا حتى يعيش حلمه.. وكأنما الحلم بالنسبة له أصبح حقيقة.. والحقيقة أصبحت كابوس.
ورقة وقلم