نقلا عن اليومى..
من السهل أن توفر للناس المستوى الأدنى من الطعام ليؤدى نفس الغرض لأشهى وأغلى أنواع الطعام.. إبقاء المرء حيًا، ولكن لا يمكن أن توفر لهم المستوى الأدنى من التعليم، وتتوقع أن يلبى ذلك حاجة المجتمعات إلى التقدم، وتحقيق طفرات اقتصادية كبيرة.
منذ عدة أيام عرضت إحدى الجمعيات الخيرية فى مصر هذه الإشكالية فى حملة إعلانية غامضة بصيغة تساؤل «الأكل أهم ولا التعليم؟»، وتبنت الجمعية فى إعلانات لاحقة خيار التعليم أهم، لتناشد المشاهد دفع التبرعات إذا ما اقتنع بأن التعليم أهم.
وفى مجتمعات ينتشر بها الفقر قد يرى كثيرون أن الطعام أهم من أى شىء آخر، وقد يغيب عن الكثيرين ممن لا يمتلكون نظرة أعمق نحو المستقبل أن التعليم هو الضمانة الحقيقية التى تمكن الإنسان من تطوير ذاته، وتحسين مستواه المعيشى، معتمدًا بشكل كامل على إمكاناته، لا على المنح والمساعدات، وهناك بعض التجارب التى أثبتت وضع التعليم على رأس أولويات أى دولة تسعى لتحقيق طفرات اقتصادية.
تجربة «تشافيز- فنزويلا»، وتجربة «مهاتير- ماليزيا»، ففى هاتين الدولتين نجد إجابات عملية حول المحور الأكثر أهمية للدول النامية «الأكل ولا التعليم؟».
بدأ مهاتير محمد رئاسة الوزراء فى 1981، وكانت ماليزيا دولة فقيرة ليس لديها ما تصدره إلا المواد الخام من القصدير والمطاط، بجانب حالة من الصراع بين العرقيات المكونة للمجتمع الماليزى، حيث يشكل المالايو 50 % من السكان، والصينيون 24 %، والهنود 7، لتتعدد بذلك الثقافات والديانات، وتتعدد معها أوجه التنازع فيما بينها، ولكن مهاتير حرص منذ البداية على تأكيد الهوية الماليزية الموحدة، والعمل على نشر التوافق بين العرقيات المختلفة.
كان مهاتير شديد الإعجاب بالتجربة اليابانية، ويرى فيها نجاحًا جديرًا بأن تتخذ منه ماليزيا مثالًا يحتذى به فى خطة التنمية، فعمم سياسة «انظر شرقا» فى جميع أنحاء ماليزيا، والتى على أساسها اعتبر اليابان النموذج الأمثل لتنمية ماليزيا بجانب تجربتى كوريا الجنوبية والصين.
بدأ مهاتير أولى خطواته العملية فى تطوير ماليزيا بالتعليم، حيث جعل التعليم إلزاميًا من قبل المرحلة الابتدائية، وجعل رياض الأطفال مسجلة لدى وزارة التعليم، وسنّ قانونًا يعاقب الآباء الذين لا يرسلون أبناءهم إلى المدارس.
أدرك مهاتير أهمية التعليم الفنى لمد سوق العمل بالعمالة الماهرة المدربة، لذلك توسع فى إنشاء معاهد التعليم الفنى التى تستوعب الطلبة بعد الثانوية، لتؤهلهم لسوق العمل فى مجالات الهندسة الميكانيكية، وتقنيات تصنيع البلاستيك، وتم إنشاء 400 معهد وكلية جامعية تقدم دراسات وبرامج توأمة مع الجامعات العالمية.
وعمل «مهاتير» على تبنى سياسة جديدة تعمل على تدعيم الصلة بين المراكز البحثية والقطاع الخاص، لتعمل تلك المراكز بشكل علمى وتجارى فى نفس الوقت، لتمد الصناعة فى ماليزيا بخطط التطوير اللازمة للمنافسة، وبذلك لم تعد الحكومة مضطرة لتحمل كل الدعم المادى الذى تحتاجه تلك المراكز، بل شارك القطاع الخاص أيضًا فى دعمها ماليًا، وارتفع عدد الجامعات خلال حكم «مهاتير» من 5 جامعات إلى 80 جامعة.
ولأنه أدرك أهمية اللغة الإنجليزية فى سوق العمل، لجأ إلى تعميم دراسة الرياضيات والعلوم فى المدارس باللغة الإنجليزية، ليعالج تدنى مستوى اللغة لدى خريجى الجامعات، وكى تساعدهم فى تحصيل العلوم عندما توفد الدولة الطلبة للخارج، حيث كثفت ماليزيا من بعثات التعليم للخارج، وكانت قبل «مهاتير» يتجه أغلبها إلى بريطانيا، ولكن بعد اتباعه سياسة «انظر شرقا» وجه بعثات ماليزيا التعليمية إلى اليابان، وقال عبارته الشهيرة للماليزيين: «إذا أردت أن تحج فاذهب إلى مكة، وإذا أردت العلم فاذهب إلى اليابان»، وأرسل أحد أبنائه للدراسة فى اليابان ليكون مثالًا للماليزيين.
وتعد ماليزيا من أكثر الدول إنفاقًا على التعليم، ففى عام 1996 أنفقت الحكومة 2.9 مليار دولار على التعليم بنسبة 21.7 % من إجمالى الإنفاق الحكومى، ووصل فى 2000 إلى 3.7 مليار دولار، أى 23.8 % من إجمالى الإنفاق، توزعت تلك الميزانيات الضخمة على إنشاء مدارس جديدة، ومعاهد فنية، ومعامل للعلوم والكمبيوتر.
التجربة الماليزية لها رؤية وأهداف واضحة، ومحاور للعمل لم نتطرق منها إلا للتعليم، مع الأخذ فى الاعتبار أن تجربة ماليزيا لا يمكن تقييمها من ناحية الاهتمام بنشر التعليم فقط، ولكن تحقيق معيار الجودة أيضًا، لأن نشر التعليم يجب ألا يقيّم بالكم، أى بعدد الملتحقين بالجامعات أو المدارس فقط، ولكن بنوعية خريج التعليم، وقدرته على تلبية حاجات سوق العمل.
على الجانب الآخر كانت تقبع تجربة أخرى حاول فيها الرئيس الفنزويلى السابق هوجو تشافيز تحقيق نجاح خاص بالقارة اللاتينية.
لا شك أن الزعيم اليسارى حقق نجاحات كبيرة فى فنزويلا، ونجح أكثر من مرة فى كسب تأييد أغلبية الشعب الفنزويلى فى كل مرة احتكمت المعارضة فيها إلى صناديق الانتخاب للإطاحة بتشافيز، ليبقى على رأس الدولة منذ 1999 حتى وافته المنية عام 2013.
تشافيز كان يسعى إلى إعادة توزيع الثروات فى بلاده، فبالرغم من أن فنزويلا تمتلك خامس احتياطى نفط فى العالم، فإن 70.8 % من سكانها كانوا يعيشون تحت خط الفقر عندما تولى تشافيز الحكم، فعمل على تبنى سياسات عاجلة لتقليص الفقر بين السكان، فزاد الإنفاق الحكومى الاجتماعى فى عهده إلى 60 %، فاستفاد أكثر من 20 مليون شخص من برامج مكافحة الفقر، حيث أنشأ شبكة لتوزيع الطعام المدعوم على الفقراء، وأقام 6 آلاف مطبخ لتقديم وجبات الغذاء المجانى لنحو 900 ألف شخص يوميًا.
قلل تشافيز بتلك الإجراءات نسبة من يعيشون تحت خط الفقر إلى 21 % عام 2011، وأسهم توزيع الغذاء على الفقراء فى تحسين الصحة العامة، حيث كان يعانى 21 % من السكان أمراض سوء التغذية.
أما التعليم فنال أيضًا جانبًا كبيرًا من اهتمام تشافيز، حيث قضى على الأمية تمامًا داخل فنزويلا بشهادة منظمة اليونسكو، وجاءت فنزويلا بالمركز الخامس على مستوى العالم من حيث أعداد طلبة الجامعة.
لكن رؤية تشافيز لم تكن مكتملة، فنشر التعليم لم يرتبط بالسوق، وخلق فرص عمل جديدة، كما لم يتضمن منهج تشافيز تطويرًا علميًا للتعليم فى فنزويلا، ولكن شمل زيادة أعداد الحاصلين على التعليم بنفس وضعه القائم، على عكس نهج ماليزيا التى دعمت التعليم الفنى بالتوازى مع دخول الدولة فى مجال تصنيع الإلكترونيات، حتى توفر عمالة مؤهلة، وأوفدت طلبة البعثات لنيل مستوى تعليمى أفضل بالخارج، والعودة للمساهمة فى خطة تطوير ماليزيا.
تشافيز أطعم الفقراء، وتبنى سياسة بناء المنازل لهم، وكسب بذلك ولاءهم فى معاركه الانتخابية، ومع اشتداد الأزمة الاقتصادية فى فنزويلا، ووصول معدل التضخم إلى 56 % عام 2013، ثبت خطأ سياسة تشافيز التى كانت بمثابة مسكنات للفقراء، استنزفت ميزانية فنزويلا لسنوات دون أن تقدم حلولًا دائمة لتحسين وضع الفقراء، دون تقديم مساعدات حكومية لهم، ما يستوجب تطوير مهارات الفقراء، وتوفير فرص عمل تتيح لهم تحسين مستوى معيشتهم ذاتيًا، بينما الوضع فى ماليزيا بعد 12 عامًا من تنحى مهاتير محمد مختلف تمامًا، فماليزيا تسير على قضبان التنمية بثبات، وتطور واضح، فنمو الاقتصاد الماليزى مستمر ما بعد مهاتير، بينما الاقتصاد الفنزويلى تهاوى بسرعة الصاروخ بعد تشافيز..
أما فى مصر فعلى الدولة أن تحدد خيارها.. «الأكل أهم ولا التعليم»؟!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة