- نجيب محفوظ يغنى فى أحلامه الأخيرة حتى لا يسقط فى الجنون
- الأغنيات لم تخلص نجيب محفوظ من الشعور بالغربة و الاكتئاب
- معظم ما تذكرته ذاكرة نجيب الفنية كان ما قبل ثورة يوليو 1952
هل هناك علاقة ما بين زمن المهرجانات الموسيقية الذى نعيشه وكتاب "الأحلام الأخيرة" للكاتب العالمى نجيب محفوظ، والذى يعد الكتاب الأخير فى مسيرة الكاتب العالمى الذى توفى 2006.. وبعيدا عن التشكيك فى كون هذا الأحلام كانت ضائعة ووجدتها ابنتا نجيب محفوظ، أو أن نجيب نفسه أهملها ولم يكن موافقا على نشرها واعتبرها ليست قوية بالشكل الكافى.. بعيدا عن كل ذلك هى ليست لمؤلف آخر فبالتأكيد كاتبها هو نجيب محفوظ.. وأغنياتها هى جزء من ذاكرة نجيب محفوظ، فرغم تجاوزه التسعين ظل نجيب محفوظ يغنى "عملت صياد سمك وصيد السمك غية".
يبدأ نجيب محفوظ فى الكتاب الجديد من الحلم "200 " وبعيدا عن كون الأحلام القديمة كانت 239 حلما سبق نشرها فى 5 طبعات، والكتاب الجديد يحتوى 291 حلما.. دعك من هذه الأرقام فلن تفيدك شيئا واستمع للموسيقى فى الحلم 302 حيث يبدأ الغناء يدلى بدلوه فى الأحلام الأخيرة لفترة النقاهة التى مر بها الكاتب العالمى نجيب محفوظ حيث يقول "رأيتنى سكرتيرا للمجلس الأعلى لوزارتنا، وانعقد المجلس وإذا بالسعاة يدخلون حاملين الصوانى المليئة بالفتة واللحم وينقض عليها الأعضاء فيمسحونها مسحا، ثم قدمت الموضوعات وتمت الموافقة عليها وانفض المجلس ورجع رئيسه إلى حجرته بالوزارة، وبعد انصراف الموظفين حضر صديق الرئيس الحميم الموسيقار محمد عبد الوهاب متأبطا عوده وراح يغنى: غلبت أشكى وغلبت أبكى لا شكوى نفعت ولا بكايا".
ثم يتوالى الغناء فى الأحلام فيغنى نجيب محفوظ أو من رآهم فى الأحلام من أصدقائه أو الغرباء الذين مر بهم فى تخوم الأحلام أغنيات كثيرة منها "يوم الهنا حبى صفا لى، والعراجين يا ملانة، أنا كنت صياد سمك وصيد السمك غية، لا دوام لشيء إلا الله، وحقك أنت المنى والطلب، عشنا وشوفنا كتير.. واللى يعيش يشوف العجب".
ليس هذا فقط فرجال الفكر والثقافة فى "زمن نجيب محفوظ" يغنون ففى الحلم "380" يقول نجيب محفوظ "رأيت أننى فى ذكر من أذكار الصوفية أذهب وأجىء وكان المنشد الأستاذ العقاد حتى تساقطنا على الأرض بين فاقد وعيه وآخر يكاد يفقده، ولما ساد الصمت غنى الأستاذ العقاد بصوت مؤثر: "يا أهل مصر هنيئا لكم الحسين"
أما فى الحلم "384" فيكتب محفوظ "وجدتنى فى حديقة الأورمان مع نخبة من طلاب وطالبات الدكتور طه حسين، وسرعان ما حضر الدكتور وراح يعلمنا أصول الغناء الشرقى والغربى وجعل يغنى ونحن نغنى وراءه، وجاء السميعة من المصريين والأجانب، ثم جاء الإعلام من الصحافة والإذاعة والتلفزيون وأصبحت فرقة طه الغنائية أعظم الفرق".
ويظل الغناء يتوالى "على بلد المحبوب ودينى، ياما انت واحشنى، وروحى فيك، يا بيت العز يا بيتنا، أراك عصى الدمع شيمتك الصبر، أسمر ملك روحى، وذو الشوق وإن تعزى – مشوق حين يلقى العاشقينا، وهواك عندى كالغناء لأنه حسن لدى ثقيله وخفيفه، البحر بيضحك ليه، يا ليل يا عين، قمر له ليالي، عندما يأتى المساء، نجوم الليل تنثر، امتى الجميل يصنع جميل وأفرح وأقول حبى عدل، خفيف الروح بيتعاجب، برمش العين والحاجب، آه يا سلام آه، زادوجدى آه، والصبر طال من غير أمل، إمتى الجميع يصنع جميل وافرح وأقولحبى عدل"
وغنى نجيب محفوظ "من قد إيه كنا هنا، من شهر فات ولا سنة، أيام ما كنا لبعضنا، والدهر غافل عننا، على دول يا أمه على دول، حلالى، بلالى، وفانى الحبيب".
أكثر من 27 حلما غنى فيها نجيب محفوظ أو استمع للغناء من آخرين أو طالب البعض بالغناء، والمعروف أن الكاتب الكبير نجيب محفوظ كان يجيد العزف على آلة القانون وربما كانت الأغنيات على التى أوردها على تنوعها قد عزفها ذات يوم، لذا ظلت عالقة فى ذاكرته لم ينسها يوما ولم يخطئ فى إملائها على سكرتيره الخاص الحاج صبرى الذى كتب هذه الأغنيات.
ومع ذلك لنا الحق أن نسأل لماذا انتظر نجيب محفوظ 100حلم كى يبدأ فى الغناء، فكما رأينا كان أول حلم ورد فيه الغناء هو "302" بينما كان آخر حلم غنى فيه نجيب محفوظ هو الحلم "393"، فهل كان محفوظ ينتظر نقطة ما ليبدأ الحلم، المعروف أن الغناء حالة تفرض نفسها ونجيب محفوظ لم يرض أن يجبر نفسه على شيء حتى ولو أراده بقوة بل ترك الأحلام تأخذه كما تشاء هى هو فقط يضبط الأطر الفنية المحيطة بها، لذا جاءت الأحلام فى الوقت الذى أصبح المتلقى مستعدا للانسجام مع الأحلام الأخيرة لسيد السرد.
لكن هناك سؤال أشمل: لماذا غنى نجيب محفوظ فى أحلامه الأخيرة؟، وليس هناك سبب واحد للإجابة عن هذا السؤال، فمحفوظ الذى خبر الحياة وخبرته ورأى مآسيها تتشكل أمام عينيه أقلقه وأرق جانبه العبث الذى أصبحت فيه، وظهر ذلك فى كثير من الأشياء فى هذه الأحلام منها الاكتئاب الذى صاحب نجيب محفوظ فى أحلامه الأخيرة، وكذلك فى غياب الجانب الوصفى من الأحلام، حيث يبدأ نجيب أحلامه بـ"رأيتى أو وجدتنى" وهناك فارق كبير بين اللفظتين وبين دلالتهما النفسية التى تسيطر على الحلم، فــ"رأيتنى" على الرغم من الانفصال الواضح بينها وبين الذات الحالمة إلا أنها تعنى الرضا والتأمل والمتابعة، لكن وجدتنى تعنى المفاجأة وفقدان القدرة على التحكم بالحلم، ولكن ما علاقة كل ذلك بالغناء؟!
الجمل الغنائية التى استعملها نجيب محفوظ تدل على أن "الحالة النفسية للغناء" كانت متنوعة بتنوع "الحالة المزاجية" لنجيب، فأحيانا يغنى صديق له ومرة يغنى آخر لا يعرفه نجيب هو صوت عابر فى حلم ليس عابرا و"نجيب" يستمع دون اختيار، ومرة ثالثة يسمع الغناء فى الشارع دون توقع ومرة يغنى هو معجبا بما يقوله أو دون تأثر.
وسنتوقف عند الأغنيات التى غناها "نجيب محفوظ" وظهر فيها صوته واضحا، ومنها الحلم "334" عندما يقول "رأيتنى بياعا أدفع أمامى عربة يد وأنادى على بضاعتى بصوت جميل ولحن مبتكر: "العراجين يا ملانة" إذا فـ"نجيب محفوظ" بائع سريح على باب الله ينادى على بضاعته البسيطة، بما يعكس الحالة النفسية التى كان عليها نجيب محفوظ، وربما يطرح ذلك سؤالا أكبر، هل بعد هذا العمر المديد وهذه الإنجازات الكبيرة والتربع على عرش الرواية العربية وحيدا باعتراف نوبل "تمنى نجيب محفوظ أن يكون مجرد بائع "خضرة" سريع يدفع عربته الخشبية أمامه وينادى "العراجين يا ملامة"؟.
أما فى الحلم "377" فيقول فى نهايته (فغنيت له: عشنا وشوفنا كتير.. واللى يغنى يشوف العجب" والمعروف أن دور "عشنا وشفنا" والذى ينتمى لـ" مقام صبا" دور قديم من غناء عبده الحامولى ولحن محمد عثمان وكلمات إسماعيل صبرى ويقول فيه "عشنا وشفنا سنين ومن عاش يشوف العجب/ شربنا الضنى والأنين/ جعلناه لروحنا طرب" هذا الدور مسكون بالحنين والشجن ويعكس الأرق الذى كان يعيشه نجيب محفوظ، فى مراحل حياته الأخيرة، فالسنوات العديدة جعلت "نجيب" يعود فى أحلامه لمراحل عمرية كان يسمع فيها هذا "الدور" من عبده الحمولى مسجلا على "أسطوانة" ونتخيل أن نجيب لم يكن يفهم فى طفولته العلاقة بين الشجن وطول العمر، لكنه أدرك ذلك الآن وفهم العلاقة الشائكة التى كان يستغربها قديما.
وفى الحلم "394" غنى نجيب محفوظ "على بلد المحبوب ودينى"، وهى أغنية شهيرة لأم كلثوم، من كلمات أحمد رامى وألحان رياض السنباطى، إنتاج 1935، فما الذى كان يقصده نجيب ببلد المحبوب، خاصة أن الأحلام الأخيرة كانت ممتلئة بالترام ونجيب محفوظ مرة راكبا له ومرة سائقا يقود، نجيب محفوظ دائما يبحث عن شيء فى أحلامه، فربما يعكس ذلك حالة من عدم الرضا التى صاحبت نجيب محفوظ فى لحظة كتابته للأحلام.
لكن مع تقدم الأحلام المصحوبة بالغناء حدث توازن نفسى لنجيب جعله فى الحلم "397" يرد على أحدهم غنى بصوت عذب "يا ما انت واحشنى" فأكمل نجيب فى نشوة الوجد: وروحى فيك"، وهذا النمط نوع غنائى آخر ربما هو أكثر ارتباطا بنجيب الذى نعرفه ونعرف روحه المرحة، وابتسامته الدائمة، ففيما يشبه فن "القافية" الشعبى أدى نجيب محفوظ هذا الحلم الأخير.
وفى الحلم رقم "406" كتب نجيب محفوظ (وأنا أغنى: يا بيت العز يا بيتنا) هذا الحلم الممتلئ بالحنين لكل شيء فالأغنية التى غنتها "فايزة أحمد" من فيلم أنا وبناتى 1961، والتى أصبحت أيقونة تردد فى البيوت المصرية فى لحظات الاجتماع والسعادة هذه الروح ألقت بظلالها مؤخرا على روح نجيب محفوظ.
فى الحلم "411" تظهر روح نجيب المحفوظ الشفيفة وحسه الساخر فعندنا التقى بفتاة قال لها "إذا كنت تحبين صوت منيرة فلا بد من سماع "أسمر ملك روحى" وهكذا غازلتها وأنا لا أدرى"، هذا الحلم به الكثير من روح نجيب محفوظ ورؤيته وطريقة تعامله مع الأنثى كما يظهر من حواراته أو من رواياته وقصصه.
لكن الجو العام المسيطر على أغنيات نجيب محفوظ هو الشجن والتحسر على الماضى، لقد كانت ذاكرة نجيب محفوظ "الفنية" فى سنواته الأخيرة مرتبطة أكثر بما قبل ثورة 23 يوليو، هذا ما تكشفه أسماء المطربين والأغنيات التى اعتمدها نجيب محفوظ واستوحى منها حلمه، وهذا سؤال مهم ربما يجيب عنه أساتذة علم النفس.
سؤال مهم آخر: هل لهذه الأغنيات الممتلئة بالحنين علاقة بالاكتئاب، هل كان نجيب محفوظ مكتئبا؟، يقول نجيب محفوظ فى الحلم 200 "وجدتنى فى حالة تأهب للصراع مع عدو شرس وتاقت نفسى إلى شيء من الراحة فصعدت إلى الدور الأعلى حيث رأيت محمد على الكبير يتلقى الأنباء وينتفخ عظمة ولكنه جن جنونا" ما الذى يريد أن يقوله نجيب محفوظ فى هذا الحلم، لماذا تاقت روحه للراحة وما الذى يقصده بكلمة الراحة، هذه النصوص من بدايتها تفتح باب التأويل، لكن السياق الذى جاءت فيه والمقصود به هنا (المرحلة العمرية لنجيب والظروف الصحية التى يمر بها) تدفعنا لتضييق معنى هذا السياق حتى يصل بنا لدرجة أن الراحة تساوى الموت، نجيب محفوظ من خلال حلمه الأول كان يخشى أن يكون مصيره مثل مصير محمد على وهو الإصابة بالجنون، لذا حرص فى أحلامه التى كان الغناء شريكه الأساسى فيها أن يتذكر الأغنيات القديمة الحزينة والمفرحة كسبيل لمقاومة الجنون.
لكن من الواضح جدا أن نجيب محفوظ نأى بنفسه من الجنون لكنه سقط فى الاكتئاب ولم يستطع أن يتجاوزه يشهد بذلك الحلمان الأخيران ففى الحلم رقم "496" يقول "رأيتنى فى زيارة للصديق "ش" المصاب بالاكتئاب، ثم غادرت إلى الشارع الهزيع الأخير من الليل وسرت بلا أى رغبة فى العودة"، وفى الحلم الأخير رقم "497" كتب فى آخر ما نراه من كلمات نجيب محفوظ لو لم يتم العثور على نص آخر ضائع يقول "وجدتنى أضيق بالزمان والمكان وأتطلع للتغيير، وعلمت أمى بما يساورنى فحاولت إثنائى عما أفكر فيه، ولكننى صممت فكشفت لى لأول مرة عن جانب خفى فانفجرتُ ثائرا، فانفجرتْ تصب علىَّ اللعنات وأنا أزداد تصميما فتقول لى: اذهب يا جاحد وسوف تعود متعثرا بالفشل، ولا رفيق لك سوى الدموع وهيهات أن ينفع الندم".
أى ندم هذا الذى سيعود به نجيب محفوظ، لماذا قلب فى حياته فتعثر فى ذلك الحلم القصصى الغريب الذى يجعلك تغادر الكتاب مصحوبا بالشجن، والأسئلة فى أى شيء فشل نجيب محفوظ حتى يعود لا رفيق له سوى الدموع.
إذن كان غناء نجيب محفوظ ممتلئا بالحنين وباحثا عن "ماضى أجمل" فغنى ولكنه لم يتمنى أن يغنى "البحر بيضحك ليه".
موضوعات متعلقة..
- أحمد منصور يكتب.. سؤال كل عام.. أين متحف نجيب محفوظ؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة