على مدار سنوات طويلة يعيش المصريون مع أزمة "المعاشات" بدءًا من مرحلة استخراجها من الأساس عقب إنهاء الحياة المهنية بعد سن الـ"60" أو قيمة المعاش نفسه الذى لا يكفى فى الغالب بالنسبة للأسر الفقيرة سد أبسط حاجتهم الأساسية فى الحياة.. وعلى ما يبدو أن قطاعًا عريضًا من الشعب المصرى فقد الأمل فى إصلاح تلك المنظومة لذا بدأ فى التعامل مع سلبياتها على أنها مرض مزمن يجب التعايش معه.
يوم واحد داخل أى مكتب تأمينات كفيل بجعلك تفقد شعورك بالآدمية.. لذا كان الاختيار مبنى الهيئة الرئيسى بشارع الألفى بوسط القاهرة الذى يكون مقصدًا لجميع الراغبين فى استكمال الإجراءات من كافة المكاتب بالجمهورية.. ومثلما تظهر المؤسسة الحكومية فى الأفلام السينمائية منذ قديم الأزل كان المصعد معطلًا لذا كان استخدام السلم فرضًا على طالبى خدمة إنهاء إجراءات المعاش، والذين تتعدى أعمار معظمهم حاجز الستين بطبيعة الحال.
فى رحلة صعود السلم إلى الدور السابع.. لم تجد "الحاجة فوزية" فرصة أفضل من هذه لتروى معاناتها من أجل استخراج معاش من هيئة الشئون الاجتماعية من المكتب التابع لها لاسيما أنها تسكن فى منطقة حلوان وجاءت إلى العتبة من أجل تلبية طلب الموظفة بمكتب قصر العينى من أجل استخراج أوراق رسمية بأنها لا تتقاضى أى معاش من جهات حكومية أخرى.. الأزمة بالنسبة لـ"الحاجة فوزية" ليست فى الإجراءات إنما فى إدراكها من الأساس كونها لا تُجيد القراءة والكتابة والذى وصفته قائلة: "الموظفة مدوخانى أنا مش بعرف لا أقرا ولا أكتب تكتبلى فى ورقة المفروض أعمل إيه وأنا أعمله.. أنا دايخة من الصبح واطلع فوق وانزل تحت.. ومش عارفه أروح فين؟!".
رغم عدم قدرتها على السير تابعت "الحاجة فوزية" السيدة الستينية العمر سيرها متكئة على عصاها إلى أن وجدت موظفًا "ربنا هداها له" بحسب وصفها، وأخبرها بأنها لديها مدة تأمينية حكومية نظرًا لعملها فى إحدى المستشفيات الحكومية فى فترة ما داخل مكتب التأمينات فى حلوان لذا عليها التوجه أولا إلى هذا المكتب للحصول على حقها المادى فى هذه المدة ثم العودة إلى مكتب الشئون لاستكمال باقى إجراءات المعاش.
حكاية "الحاجة فوزية" قادت الصاعدون إلى السلم إلى نقطة جديدة فى الحديث عن أنواع الموظفين داخل هيئة التأمينات وبالتحديد فى قطاع المعاشات الذين يتعاملون فى الأغلب مع فئة كبار السن "المرضى فى أغلب الأحيان"، لذا تكفل أحد الموظفين أثناء صعوده معهم بتحديد أنواع زملائه قائلا: "عندنا موظفين بيتقوا ربنا فى الناس ويساعدوا أغلب العواجيز اللى بيدوخوا بسبب الروتين وبيكونوا مش عارفين يروحوا فين أو يجيوا منين.. مثلا هنا فى العتبة عندنا أكتر من مؤسسة تابعة للتأمينات بس انت عاوز أنهى واحدة فيهم.. هتدوخ لغاية ما تعرف.. عشان كده الموظف الفاهم بيريح اللى قدامه ويساعدهم.. وفى ناس تانية ربنا مش مقدرها تبقى عاوز تمشى اللى قصدها وخلاص".
فى الدور الأول من الهيئة يوجد مكتب "استخراج الطابعات" يعمل أغلب أشخاصه بـ"جدية نادرة" لكن الوقوف فى الخارج لدقائق يحمل الكثير من قصص المعاناة.. فإذا كنت شخصًا يبدو على هيئته أنك على درجة معينة من التعليم.. اعلم أنك أصبحت مقصدًا لكثير من المتواجدين فى هذا المكان الذى يعانى أغلبه من عدم القدرة على فهم التعقيدات الحكومية أو عدم رؤيتها من الأساس بالنسبة لكبار السن.
سيدتان ترتديان ملابس سوداء وما أكثرهن هناك بطبيعة الحال.. بالحديث معهما تبين أنهما أم وابنتها جاءا لاستكمال إجراءات المعاش بعد وفاة الأب الذى كان يعمل عامل حراسة فى إحدى شركات المقاولات لكنهما لم يستطيعا تقاضى أى أموال من المعاش منذ خمسة أشهر لسببٍ غير قادرين على فهمه، سوى بالكلمات التى يسمعونها فى كل مرة أن "الملف غير مكتمل"، الابنة تحدثت سريعًا عن أبسط حلقات المعاناة الكامنة فى انتظار المخاطبات بين الشركة ومكاتب التأمين التابع لها والدها كونه عمل فى أكثر من مكان لذا تخاطب الشركة والمكتب وتنتظر الرد من أجل درج المدة التأمينية فى الملف لكن هذا الأمر يستغرق وقتًا طويلًا والحال المادية ليست على ما يرام حسب ما تقول.
النماذج السابقة تتكرر لدرجة لا يمكن إحصاؤها.. فالوقوف أمام مبنى الهيئة نفسه أمر يدعو للاكتئاب مع كثرة عدد الأشخاص الذين يخرجون ويتحدثون مع أنفسهم.. ويسيرون هائمين غير مدركين أى جهة يقصدونها!.
المكتب الرئيسى لم يكن المقصد الوحيد فاللجوء للمكاتب الفرعية يحمل درجة أعلى من المعاناة.. وتفاصيل أدق فى كيفية فقدان المصرى آدميته كمكافأة لنهاية الخدمة.. ففى الدور الثانى من عمارة الأوقاف بشارع الثلاثينى فى منطقة الهرم بالجيزة.. دخل شاب إلى المكتب حاملا والده غير القادر على الحركة فى تمام العاشرة صباحًا.. من أجل استكمال إجراءات المعاش التى يحاول إنهاءها منذ سبعة أشهر بحسب روايته، الشاب أوضح أن والده اضطر إلى الخروج لمعاش مُبكر بسبب بيع الشركة التى كان يعمل بها لكنه بعد أشهر من القرار أصيب بـ"جلطة".. لذا قام بعمل قومسيون طبى وتم تحديد نسبة العجز على أنها أكثر من 70%.. ومنذ ذلك الحين يأتى يوميًا إلى المكتب من أجل إنهاء الإجراءات لكن الموظفين أخبروه بأن الملف مفقود ولكن بعد عذاب تم العثور عليه حيث اتضح أنه كان موجودًا فى المكتب إلا أن الموظف لم يُكلف نفسه عناء البحث عليه.
وأكد الشاب أنه حضر بوالده إلى المكتب من أجل عرضه على الموظفين ليتأكدوا من حالته الصحية على أرض الطبيعة حتى تنتهى الإجراءات بسرعة خاصة أنه لم يتقاض أى راتب منذ سبعة أشهر والحالة المادية صعبة للغاية فى ظل حاجته لتناول أدوية باستمرار خصوصا ان أسعارها تكون فوق قدرة الأسرة على تحملها.
"الحاجة أم منى" تجعلك تشعر فى اللحظات الأولى أنها تعمل فى هذا المكان لسنوات طويلة لكن الواقع أنها جاءت من أجل الحصول مبلغ تعويض يخص ابنتها التى أصيبت أثناء عملها فى إحدى مدارس منطقة الطالبية.. لكنها منذ سنوات تتردد على هذا المكتب من أجل إنهاء إجراءات المعاش الخاص بها.. وقالت "أم منى"، مثلما عرفت نفسها، إن إجراءات المعاش لم تتغير منذ 25 عامًا عندما خرج والدها على المعاش بعدما كان يعمل فى مصنع النسيج.. وحصل حينها على 20 جنيهًا شهريًا فقط!.. لكن الأسرة كانت حينها راضية بهذه الجنيهات، مضيفة: "أنا بقبض دلوقتى 600 جنيه معاش من جوزى مش بيطلع عليهم صبح بعد القبض.. لكن الحمد لله الفلوس دى آخر حاجة فى الدنيا نبصلها.. إحنا مش مشكلتنا فى الفلوس إنما فى الذل وتحكم الموظفين فينا مع أنهم مننا ومفروض يكونوا قلبهم علينا بس إحنا اللى بنعمل كده فى بعض".
سيدة أخرى التقطت طرف الحديث للسؤال عن مصير فرق العلاوة الذى يعود إلى عام 2007 فى عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك وهنا أجابتها الحاجة منى بأنهم صرفوا جزءا على مدار أشهر لكنهم لم يُسددوا باقى المستحقات.. وإنه إذا لم تحصل على شىء يمكنها التقدم بشكوى لتجيُبها السيدة على الفور بابتسامة ساخرة "الشكوى لغير الله مذلة"، للعلم فإن خلاف نشب بين المالية والتأمينات منذ فترة، حول الجهة التى ستتحمل الأعباء المالية، لصرف فرق العلاوة المتأخرة 2007 وقدرها 5% لأصحاب المعاشات، وهل هى تابعة لصناديق التأمينات، أم للخزانة العامة للدولة.
فى العديد من المؤسسات الحكومية دائمًا ما تمتلئ أوقات الانتظار بسرد تفاصيل المعاناة وإلقاء اللوم على عاتق المسئولين بداخلها.. سيدة توفى زوجها منذ أسابيع بعد سنوات من الحيرة والتنقل بين المستشفيات الحكومية التى أذاقتها المُر مثلما وصفت حالتها.. قائلة: "أنا هنا لسه فى بداية المشوار بقالى 3 أسابيع بس بلف على ورق معاش جوزى.. وأنا عارفة الدنيا هنا صعبة.. أنا كدا ممكن أخلص الإجراءات بعد كام شهر ولا حاجة.. عشان خاطر العيال الصغيرة أنا عندى ولدين وبنت ومحتاجين فلوس مدارس وهدوم وعايشة مع أمى دلوقتى بالمعاش بتاعها اللى مش بيكفى أى حاجة لكن ربنا كريم بعباده".
وأثناء ذلك الحوار دخل رجل فى الخمسين من عمره يسأل عن الطريق الأسهل للوصول لمكتب التأمينات المتواجد فى شارع أحمد عرابى بمنطقة المهندسين.. قائلا: "أتقاضى معاشين أول معاش مبكر والآخر لتحسين الدخل من الشئون لكنى فوجئت بوقف الاثنين معًا.. والموظف قالى هتاخد سلفة أنا مش فاهم بقالى شهرين مش بقبض فلوس.. وقالولى إننا هنعملك سلفة أروح المهندسين إزاى.. أنا من الشرقية وهاجى بكره وادفع مواصلات تانى.. مش عارف أقول إيه".
ما يتعرض له المواطنون البسطاء فى مكاتب التأمينات لا يمكن وصفه سوى بالتهاون فى حقوق هؤلاء الذين لم يعد بإمكانهم خدمة أنفسهم بعد سنوات طويلة قضوها فى العمل داخل مؤسسات القطاع العام أو الخاص على مدار سنوات عمرهم.. ويجب فى النهاية الخضوع لها حتى يتمكنون من الحصول على معاشهم الشهرى ومكافأة نهاية الخدمة.
"إجراءات المعاش" الخدمة المنسية.. المعاناة عرض مستمر والإجراءات معقدة.. موظف بالهيئة يؤكد: "العاملين هنا أنواع وفى ناس مبتعرفش ربنا".. وشاب يحمل والده العاجز لعرضه لصرف معاشه المتوقف منذ 7 أشهر
الثلاثاء، 15 ديسمبر 2015 03:47 م
طابور لكبار السن فى إحدى المصالح الحكومية - أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة