نقلا عن اليومى..
الجمال الملفوف بسحر الغموض الذى يجبرك على الاقتراب أكثر مهما كررت لنفسك أن كل سنتيمتر تقطعه تجاهها هو خطوة تجاه الموت، الأسطورة التى توارثناها جيلًا بعد آخر، وورثنا معها الخوف من الغواية وتتبع شغفنا والتضحية بالأمان فى سبيل المتعة المجهولة أسطورة «النداهة» التى تناقلها المصريون همسًا فى الليالى الباردة الممزوجة بالرعب تحكى عن الأحمق «اللى ندهته النداهة وراح وراها» وتجاهل تحذيرات الأجداد واندفع وراء غرامه بالجنية الحسناء حتى سلبته حياته، وفى أحسن الأحوال تسلبه عقله.
هذه الأسطورة الغامضة التى أصبحنا نتناقلها ممزوجة بسخرية من سذاجة السابقين الذين صدقوا مثل هذه القصة غير المنطقية، لا تزال موجودة إلى الآن، بشكل آخر ربما ولا تخرج من المستنقعات والترع ربما لكنها لا تزال تسرق الناس وتفقدهم حياتهم أحيانًا.. وعقلهم فى أحيانٍ أخرى..
عايز تفهم.. ع الأصل دور
من بين شريانى الحب والحرب خرجت أسطورة «النداهة» من تحت الأنقاض، اخترعها المصريون بحثًا عن شفاء لوجع القلب أحيانًا، وهروبًا من جرائم كبيرة ارتكبوها -ورغبوا فى تقييدها ضد مجهول - أحيانًا أخرى، وأيا ما كانت أسطورة النداهة حقيقية أو لا، يظل أصلها هو الأكثر إثارة للحيرة بين الأساطير الأخرى، خاصة وأنها دائمًا ما تترك وراءها جرحًا لا يزول إلا بالموت.
وتعتبر «النداهة» من أشهر الأساطير التى يؤمن بها الريف المصرى، حيث يزعم الفلاحون أنها امرأة جميلة جدا وغريبة تظهر فى الليالى المظلمة فى الحقول، لتنادى باسم شخص معين فيقوم هذا الشخص مسحورا، ويتبع النداء إلى أن يصل إليها ثم يجدونه ميتا فى اليوم التالى، ويقولون إنه لا يمكن لأحد أن يقاوم نداءها بسبب سحر صوتها الجميل، الذى يأسر القلب والأذن ويشعر معه الإنسان وكأنه لم يسمع اسمه من قبل.
يقال أيضا إن النداهة أحيانا ما تقع فى حب أحدهم وتأخذه معها إلى العالم السفلى وتتزوج منه، وفى هذه الحالة يختفى الشخص كليا ويظهر بعدها فجأة، إلا أنه يتوفى بعد ذلك ويقول البعض إن وفاته هى بسبب أنه تخلى عن عالمها السفلى وعنها، وتنتقم هى منه بقتله خوفا من كشف أسرار عالمها، لذلك يموت البعض فى اليوم التالى أو يصاب بالجنون أو يختفى تماما.
كما تقول روايات أخرى للأسطورة إنه يمكن أن يقتصر ضرر النداهة على الجنون، وأن بإمكانها التشكل بأكثر من شكل، وأكثر من حجم لنفس الشكل، ولقد ظهرت العديد من القصص والحكايات حول موضوع النداهة ليس بالضرورة أن يموت الشخص فى اليوم التالى أو يصاب بالجنون بشكل كامل، فقط يحدث ما يمكن أن نقول عليه بعض الهلاوس النفسية كأن تجد الشخص يتحدث مع نفسه ويبدأ بالتردد كثيرًا على التجول داخل الأراضى الزراعية، ومن الصعب عليك تعقبه ومعرفة أى الأماكن التى يذهب إليها بالتحديد.
وأكد الكثير من المحققون، أن كثيرا من القتلة فى المناطق الريفية يتعذرون بالنداهة لإخفاء جرائمهم، حيث يقنعون الناس بأن جثث الأشخاص التى تظهر فى الصباح دون سابق إنذار يكون سببها أن هذا الشخص نادت عليه النداهة، وقتلته لتذهب روحه معها إلى عالمها السفلى. الأغرب من ذلك أن كثيرا من الناس فى الريف المصرى يصدقون تلك القصة فعلا، وتقيد الجرائم ضد مجهول لاعتقاد الناس أن سبب الوفاة هو النداهة التى هرب بفضلها الكثير من القتلة غير المعروفين.
ومن القتل إلى الحب، يصدق الفلاحون أيضًا أن سبب اختفاء أى شخص فى البلد هو ذهابه للبحث عن الحب مع النداهة، فهى دلالة على حرمانه من العاطفة، ورغبته فى الوقوع فى العشق حتى لو كان ذلك مع كائن خيالى لا وجود له. وهنا يجدر الإشارة، إلى أن تصديق أسطورة النداهة على أساس رواية البحث عن الحب، يشبه كثيرًا القصص الإغريقية القديمة، حيث يؤمن الإغريقيون أيضًا بوجود عروسة البحر التى تخرج لتنادى بصوتها الجميل على البحارة الذين حرموا من الحب، لتأخذهم معها فى الأعماق ويعيشوا قصة حب بعيدًا عن الناس هناك.
بكل لغات العالم
هذه الأسطورة التى نبتت فى أرياف مصر ليست محلية أبدًا، فمثلما لا نعرف من أين نبتت فى مصر لا نعرف أيضًا السر وراء انتشارها فى مختلف أنحاء العالم بأسماء وقصص تختلف فى حبكتها وطقوسها لكنها تتفق جميعًا فى أن الغواية تكمن فى الجمال وتتبع الشهوة سيقود إلى التهلكة فى النهاية.
«أم الدويس» أسطورة «موجهة» لتخويف الرجال من الغواية
هذه الأسطورة التى تحمل هنا طابعًا مصريًا خالصًا بدءًا من الاسم المشتق من كلمة «نده» أو النداء، تحمل فى بلاد الدنيا المختلفة أسماءً مطبوعة بثقافتهم أيضًا، ففى دول الخليج، خاصة فى الإمارات، يتم تداول أسطورة «أم الدويس» أو «أم الصبيان» التى يقولون إنها جنيّة جميلة، بالغة الأنوثة والجمال تفوح منها رائحة عطور خاطفة وجذابة، يحكون أنها تلاحق الرجال ليلًا وتفتنهم بجمالها وما إن يقع الرجل فى شباكها تقتله وتأكله، وأشيع أيضًا أنها تخاف النساء وتظهر فقط للرجال. ويشاع أن هذه الأسطورة مختلقة من أجل تحذير الرجال وتخويفهن من الافتتان بالنساء الغريبات ولإبعادهم عن المعصية والوقوع فى الزنا.
فى اليونان.. النداهة تفتن البحارة بالغناء
أما فى اليونان بلد الأساطير، فلم تفتهم أسطورة «النداهة» التى تحمل عندهم اسم «السيرينات» أو «عروس البحر» التى تفتن البحارة بالغناء بصوت ساحر، ووجه بالغ الجمال، ومن يفشل فى مقاومة إغواء الغناء يخطفنه فى البحر.
وتقول بعض الروايات للأسطورة إن مصير البحارة يختلف من حورية لأخرى، فإذا كانت الحورية التى خطفت البحارة طيبة وملائكية ستأخذهم إلى شاطئ الأمان، حيث يعيشون معهم نعيما، أما إذا كانت الجنية شريرة فستخطفهم إلى بحر الظلمات وتقتلهم.
«لا لورونا» المرأة الباكية.. الأسطورة الإسبانية المرعبة
باختلاف طفيف يتم تداول أسطورة «لا لورونا» فى إسبانيا، والتى تستهدف تخويف الأطفال وإرعابهم، والتى تخرج فى صورة امرأة حزينة تخرج ليلًا على ضفة النهر تبكى وما إن يقترب منها شخص، لاسيما إذا كان طفلًا، ويقال إن وراءها قصة حزينة لامرأة جميلة دفعتها الغيرة على زوجها إلى قتل أولادها بإلقائهم فى النهر، وأصابها الندم بعد أن فعلت ذلك فألقت نفسها وراءهم ومن يومها وشبحها يطوف عند النهر يخطف الأطفال ويصيب النساء باللعنة نفسها وتدفعها لقتل أطفالها.
«المرأة مشقوقة الفم» الفاتنة المسمومة
قصة معكوسة تأتى بها الأسطورة اليابانية «كوشيساكى أونا» أو «المرأة ذات الفم المشقوق» المتداولة فى اليابان، والتى يقال إنها امرأة جميلة ذبحها زوجها الغيور فعادت لتنتقم منه فى كل الرجال.
وأصبحت هذه المرأة الشبح تظهر للرجال فى الشوارع ليلًا مرتدية قناعًا يخفى وجهها المشوه تحته، تحدق فى الرجل أو الطفل وتقترب منه، وتسأله بنعومة «هل أنا جميلة؟» فإذا أجابها بلا تقتله فورًا، أما من يجيبها بنعم فتخلع أمامه قناعها الجميل ليظهر وجهها المشقوق المرعب من الأذن إلى الأذن، وتسأله «ماذا عن الآن؟» فإذا أجابها بلا تقتله فورًا، أما إذا أجابها بنعم فتشق له وجهه تمامًا كما وجهها وتتركه.
الطب النفسى: الأسطورة وراها «ست»
علم الاجتماع: النداهة هى القهر والرغبة الداخلية التى تسيطر على الإنسان وتدفعه إلى السعى لتحقيقها وإشباعها بكل شكل ممكن.
من قلب الظلام والمجهول تخرج تلك الجنية الجميلة التى لا تعود الحياة بعد لقائها أبدًا لما كانت عليه قبلها، ينقاد الرجل وراءها كالمسحور، يترك كل حياته وراءه ويتتبعها إلى حتفه مهما حذره الآخرون من أنها جنية تقوده نحو الموت. أحيانًا يجدونه جثة، وأحيانًا تكتفى الجنيّة الجميلة بإفقاده عقله.
«هذه الأسطورة التى حكاها الأجداد منذ زمن تتكرر الآن بشكل أو بآخر، حين تخطف النداهة العصرية الرجال من أسرهم وحياتهم ويتتبعونها إلى أن تنتهى حياتهم، ليس شرطًا أن يجدهم الناس جثة ولكن يكفى أن تدمر حياته تمامًا»، هكذا يعلق الدكتور مينا جورج، رئيس قسم التأهيل النفسى بمستشفى العباسية على الأسطورة، ويقول لـ«اليوم السابع» «أعتقد أن هذه الأسطورة كان فى البداية وراءها النساء، فهى تحمل مدلولًا مجازيًا بأن الرجل الذى يهيم على وجهه خارج بيته معرض للإغواء من قبل امرأة جميلة تتسبب فى إفساد حياته إذا تتبعها ومشى وراءها. والظلام أو الليل قد يرمز إلى تتبع الرجل لشهوته، لأن الشهوة والخطأ يحدثان دائمًا فى الظلام وفى الخفاء، كما أنه من الموروث والشائع أن الرجل الذى يمشى وراء نزواته وشهوته يفقد عقله، وقد يرمز الظلام أيضًا إلى فترة تشهد فيها العلاقة بين الرجل وزوجته تدهورًا والكثير من المشكلات تجعله صيدًا مميزًا للجنية أو النداهة.
ويضيف: التفسير الشائع عن أن وراء الأسطورة كبتا عاطفيا يدفع الرجل للتوهم بأن هناك امرأة جميلة ترغب فيه بقوة قد يكون صحيحًا أيضًا، ولكن ذلك يحدث مع النساء أكثر من الرجال فالفتيات شائع بينهن توهم وجود عاشق مفتون بهن ويخشى مصارحتهن بحبه لأن هناك شيئا ما يعوقه، وهو فى الحقيقة لا يعرفهن من الأساس. ويتابع د. مينا جورج: يمكن تفسير الأسطورة بطريقة أخرى إيجابية وهى أن النداهة هى «الشغف» الخاص بكل شخص، لا سيما إذا كان مبدعًا، ويدفعه إلى أن يغير مسار حياته بأكمله ليتتبعه فإما ينجح وتكون النتيجة أعمالًا إبداعية وإما يقوده شغفه إلى الجنون، ولكن هذا لم يعد يحدث الآن، فالناس أصبحت أقل جرأة وشجاعة فى تتبع شغفهم بسبب ضغوط الحياة العصرية.
أما د. مصطفى رجب، أستاذ علم الاجتماع وعميد كلية التربية الأسبق بجامعة جنوب الوادى، فيرى أن «أثر النداهة لا يزال مستمرًا حتى الآن، وهو وراء الكثير من الجرائم التى ترتكب من أجل إشباع الرغبات أو تحقيق الثراء السريع وتعويض الحرمان، فالنداهة هى الرغبة الداخلية التى تسيطر على الإنسان بشكل جنونى وتدفعه إلى السعى لتحقيقها وإشباعها بكل شكل ممكن، مهما كانت العواقب، وهى الإحساس بالقهر النفسى والاجتماعى والذى لا يشترط أن يكون ناتجًا عن التعرض للظلم فقط، ولكن القهر أيضًا يأتى من شعور الإنسان بقلة الحيلة وعدم القدرة على تحقيق أحلامه أو حتى إشباع شعوره بالحرمان الشديد من شىء ما».
حكايات المندوهين
وبالرغم من تأكيد الأسطورة على أن كل من يلتقى بالنداهة يكون مصيره الموت أو الجنون، إلا أنه كل فترة يظهر شخص جديد فى مصر بلد العجائب ويؤكد على رؤيته لها، وينشر روايته فى الصحف أو الإنترنت، مؤكدًا أن النداهة حقيقية وليست أسطورة خيالية كما يظن الجميع، وأنه عاش معها ليلة من ألف ليلة عندما قابلته وحيدًا أو بينما كان يسير مع شخص آخر لتغويه، ومن هذا المنطلق نستعرض أهم هذه القصص حسبما رواها أصحابها وتداولتها صفحات مواقع التواصل الاجتماعى. فى البداية يحكى الحاج عبدالخالق محمد، الذى يقترب عمره من التسعين الآن «التقيت النداهة زمان، وقتها لم يكن بالقرى كهرباء، وكان الظلام الحالك يلف كل شىء فى البلدة مع حلول المغرب، وأتذكر حينها أننى كنت ذاهبًا مع زوجتى إلى فرح أحد الأقارب، وتأخرنا هناك وعدنا فى وقت متأخر، وفى طريق العودة، كنا نمر بجوار ترعة ممتلئة بالماء والظلام حالك، فوجئت بصوت امرأة تنادى من خلفى باسمى، التفت لأجد امرأة جميلة فى العشرينيات من عمرها، كانت جالسة بجوار الترعة، وبرغم الظلام إلا أن ملامحها كانت واضحة تماما، وجدت نفسى ذاهبا إلى حيث هى جالسة، بالقرب من الترعة، وهنا انتبهت زوجتى وصرخت، وأيقظنى صوتها الصارخ، من حالة التوهان والاستسلام الغريب للنداهة التى قالت وهى تختفى فى الماء: يوما ما ستكون لى، ثم ضحكت ساخرة وهى تقول لزوجتى: لقد أنقذتيه منى لكنى سآخذه منك». أما «سالى الإسكندرانى» فحكت على لسان جدها، قصة لقائه مع «النداهة» قبل 60 عاما، قائلة: «كان جدى فتى فى السابعة عشرة من عمره يعيش فى تلك الواحة فى الصحراء الغربية، كان يملك الكثير من الوسامة، ورأى فتاة جالسة على جانب الطريق تبكى فذهب ليسألها ما بها، فرفعت عينيها له وكانت شديدة الجمال، أجمل من فتيات البندر والإنجليز، وكان نصف جسمها بشريا والآخر جانًا، ولكن جمالها كان أخاذا فلم يهتم، وطلبت منه أن يمشى معها، وفعلا بقيا لقرابة الساعة فى الصحراء البعيدة، وكان لسانه مربوطا فلا هو يستطيع الكلام، ونظره مسحور فلم يستطع التوقف عن النظر.
ولم تقف الأساطير عند حد تأكيد بعض المصريين لرؤية النداهة فقط، حيث ذهب البعض منهم لما هو أبعد من ذلك، مؤكدًا أنه فى حالة خروج النداهة من تحت الأرض أو على شط الماء، فهناك عدة طرق لمواجهتها ومنع شرها وسحرها، وأهم هذه الطرق التى يمكن قتل «النداهة» بها هى ذكر الله ورش الملح عليها، مع عدم النظر إلى وجهها، وطبعًا مقاومة الرغبة الشديدة فى الاقتراب منها وعدم الرد على ندائها.
عدد الردود 0
بواسطة:
ياسر حجازي
الحب اول في قطار الاسكندرية المكيف