الأدب المكتوب بالوجع الإنسانى وفرحه لا يفقد قيمته أبدا، لذا عندما تقرأ الطبعة الثانية لرواية "بيت النخيل" للكاتب طارق الطيب سوف تجدها ما تزال طازجة، كأنما انتهى من كتابتها اليوم، وليس مما يقارب السنوات العشر، كل ذلك لأنها تعكس أوجاع وأحزان وأفراح الروح الإنسانية.
هذه الرواية وأثناء قراءتها سوف تجد نفسك تشارك الكاتب فى كل جزئياتها، بمعنى أنك ستبحث معه عن كل ما يخصك، وستفكر فى طفولتك بالدرجة نفسها، وستتوقف عند قصة حبك الأول بدرجة التمعن ذاتها، ستقفز كل التفاصيل الصغيرة مرة واحدة إلى ذهنك، وسوف تتوقف عن القراءة وتغمض عينيك لتنسال عليك ذكريات حياتك كلها، فقط الذى تحتاجه أن يكون أمامك إنسان تفتح له قلبك وتتحدث.
الرواية على قدر ما بها من شجن لكنها تغسل روحك مما علق بها من أفعال الزمن غير الطيبة، تغسلها بدموع داخلية من الحكى فتعيد لك جدتها ونقاءها، ترى حياتك مثل شريط سينما ينساب أمامك وأنت تشاهد وتتطلع إلى انعكاس تأثير الفيلم على حياة الآخرين.
"بيت النخيل" تروى حكاية البلاد قبل العباد، هى تتبع سيرة "حمزة يوسف ود نيلاوى" فى حله وترحاله، فى الانقسام الذى يصيب الأرواح لأنه أصاب البلاد، كم من شخص ظهر فى الرواية واختفى والراوى لا يعرف أين ذهب، حبه الأول "ليلى" رحلت ولا يعرف مكانها، ووالده "يوسف ود نيلاوى" اختفى ولا تخبرنا الرواية عن مكانه، لكنها تتعامل معه بحذر مَن هجر أهله، و"ود النار" قرية كاملة أصابها الجدب فأصبحت مثل بلاد الله التى تحكى عنها الكتب المقدسة "كأنما لم يسكنها أحد من قبل"، فكيف يعيش الإنسان وكل ماضيه اختفى تماما مخلفًا وراءه ذكريات مؤلمة وثلاثة حجارة هى شواهد قبور أحبائه، وقطة "حكيمة" تشبهه فى تشرده وضياعه.
الرواية هى حكاية السودان بحروبه الطاحنة وتشرد أهله دون سبب وشخصياته المريرة "الشيخ الفكى والحوت" وحكاية مصر بتوترها الذى تشهده بين التفاصيل المكتوبة فى الرواية، وحكاية فيينا ببرودتها القاتلة وظلامها الكثيف وعنصريتها أحيانا.. ومن ناحية أخرى هى حكاية السودان بأهلها الطيبين وتصوفهم القوى وحزنهم الشفيف وشخصياته الطيبة "الخطاف، حمد النيل، الشريف"، وحكاية مصر بدفئها وود أهلها وناسها "عم ركابى، وامرأة الحسين، وهاشم" وحكاية فيينا ببيت نخيلها وساندرا.
وتظل شخصية "ساندرا" الأهم فى الرواية، مع أنه يساورك الشك أحيانا، بأنها شخصية اختلقها "حمزة" من خياله، حتى يستطيع أن يحتمل هذه البلاد الباردة، لأنها جاءت كما يتمنى وكما يريد وعلى حد قوله عندما سألته عن الحب فى فيينا قال "كنت أنتظرك"، ربما تشعر أحيانا بأن "ساندرا" متمناة خرجت من رأس "حمزة" الذى تكاد تقتله الوحشة والبرد، وربما لو تأملنا ثلاثة أشياء مهمة فى الرواية ندرك ذلك:
الأول: طريقة تفكير "حمزة" الذى تحايل على برودة الشقة بأن استخدم ورق حائط ممتلئ بالنخيل، كى يشعر بنوع ما من الدفء، وطريقة التفكير هذه من الممكن أن تبتكر شخصية خيالية كى تُشعر قلبها بالدفء.
ثانيا: كم الأحلام التى تصيب "حمزة" فالرواية من أهم تقنيات كتابتها "الحلم" الذى يتجاوز مجرد الرؤية ليصبح صياغة مكتملة للرواية، يرى الراوى من خلاله العالم ويحكيه.
ثالثا: طريقة ظهور "ساندرا" واختفائها، ظهرت على "سلم البيت" بأساورها الغجرية فى لحظة ضعف يمر بها عندما سقطت أشياؤه وتناثرت على درجات السلم، وهو هنا فى أشد لحظات إحساسه بالضياع، ووجود شخصية إيجابية هى كل ما يحتاجه، أما طريقة اختفائها بالموت بمرض السرطان، فهو قمة الدراما التى يمكن أن تصل إليها روح معذبة مثل "حمزة" الذى اشتد عليه إحساسه بالتيه، خاصة أن فكرة مرضها كانت عندما فكر فى العودة لمصر، فى المرة الأولى بعد شراء تذاكر السفر مرض "هو"، وفى المرة الثانية التى قررا فيها الذهاب لمصر مرضت هى ثم ماتت مثل أى فكرة نبيلة فى الحياة.
ربما فكرة "خيالية وجود ساندرا" تأتى من كونها كانت مناسبة أكثر من اللازم بالنسبة لـ"حمزة"، فهى لم تسقط أبدا فى لفظة عنصرية واحدة، لم تستهجن عمله أو تقلل منه، أحبت كل ما يفعله، طعامه الممتلئ بالتوابل وحكاياته الممتلئة بالحزن وأسمهان بصوتها الشيطانى الجميل حتى أنه أنطقها حرف "الحاء" فى اسمه، كان "حمزة" يعرف أن الحكايات تدفئه وكان يريد قلبا يحب الحكايات ويحب "حمزة" فكانت "ساندرا".