إن الروح الثورية الواعية هى وحدها التى تبقى جذوة الصراع متقدة، بحيث لا تكتفى الأمة باستقلالها السياسى والاقتصادى، بل لابد لها من تأجج المشاعر، وإيقاظ الضمائر، بحيث لا ترضى عن الاستقلال التام المتسامى بديلا.
وهذا الاستقلال الرفيع لا يكون حقيقة واقعة إلا إذا تحررت الأمة من سلطان غيرها الفكرى، وكشفت عما ران على قلوب بعض أبنائها، من غشاوة، وعادت إلى نفسها تستقى من ينابيعها العميقة الأصيلة كل ما تروى به شجرة وجودها المزدهرة فى كل أمر من أمورها، فى لغتها، فى آدابها، فى فنها، فى فلسفة حياتها، فى آداب عيشها، فى طرق سلوكها، فى قيمتها الاجتماعية، وفى الخلاصة، فى كل جليل أو صغير من أمور حياتها، فى كل ميادين الحياة الرحيبة، بحيث تبدو فى أعين الناظرين أصلا أصيلا وليس مجرد صورة حسنة النقل أو مشوهتها.
إن بلوغ هذا المقام يحتاج إلى الكفاح والجهد والتضحيات أضعاف ما قد يحتاجه الاستقلال السياسى، ولكنه صراع فكرى، وكفاح سلمى، لا تراق فيه الدماء، ولا تهدر فيه الأموال، وإن كان لابد من عصر الأدمغة، وإهاجة القلوب، وإرهاف الأعصاب، واستثارة الأرواح وإيقاظها.
وإذا ما تركنا التعميم، وعدنا إلى واقع أمتنا العربية، ونظرنا إلى حياتها اليوم فى كل أقطارها، وتساءلنا عن آثار هذا الاستعمار الفكرى فى كل أجزاء الوطن العربى الكبير، ها لنا ما وجدنا من آثار هذا الاستعمار البغيض فى لغة حياتنا، فى مصطلحاتنا التى نصطلحها للأشياء، فى مسمياتنا للمحلات العامة، فى نظرتنا السياسية والاجتماعية وفى كل ضرب آخر من ضروب حياتنا، ففى لغاتنا الدارجة اليوم مئات من المفردات الإيطالية والإسبانية والفرنسية والإنجليزية والتركية والفارسية وغيرها من اللغات، تلك المسميات التى دخلت أقطارنا العربية مع المستعمرين، وبقينا نتداولها من غير ما ضرورة أو حاجة إلى استعمالها، ولكن الكسل العقلى، والخضوع لسلطان الاستعمار الفكرى، وتخدر مشاعرنا، هى العوامل التى تبقى هذه الألفاظ والمصطلحات حية بيننا لتزيد من مظاهر الفرقة بين أقطارنا، أن كل قطر أو مجموعة أقطار تأثر بلغة من اللغات الأجنبية، وصار يستعمل مفرداتها ومصطلحاتها بحيث تبدو غريبة لأى أعين أبناء الأقطار العربية الأخرى التى لا تستعملها، هى بدورها ألفاظ أجنبية أخرى.
إن الاستعمار الفكرى هو أخطر أنواع الاستعمار على الأمم والشعوب ويتجلى مظهر هذا الخطر فى احتقار الإنسان تراث بلاده القومى ورصيده الروحى والمعنوى وتشبثه بالانتاج الأجنبى، واستيراد المبادئ والنظريات، وبالتالى فقدان الأواصر الروحية بينه وبين ماضيه وانعدام كل الروابط التى تجمعه مع إخوانه فى الدين واللغة والتاريخ والآلام والآمال ويصبح عضوا منفصلا عن أعضاء أسرة الوطن الكبرى التى ينتسب إليها.
وأسوأ من هذا فإننا لم نكتف باستعمال المفردات الأجنبية فحسب، بل خضعنا إلى الاستعمار الفكرى خضوعا أشد، وصرنا نستعمل تعبيراته ومصطلحاته فى تحياتنا وإظهار علامات الاستحسان بيننا، وآداب سلوكنا، وصرنا نقلده فى أشياء كثيرة أخرى تقليدا أعمى دون أن نفطن إلى أننا نمسخ شخصيتنا، ونهدر كرامتنا القومية ونقيم البرهان على عدم استقلالنا استقلالا حقيقيا تتحقق فى ظله الكرامة التامة لأمتنا، وتبرز فيه شخصيتنا أصيلة واضحة قوية.
فـوزى فهمـى غنيــم يكتب: الكرامة التامة لأمتنا
الجمعة، 20 فبراير 2015 06:02 م
مصريين
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة