بعيدا عن كل الأعين تحتفظ الجدران المتلاصقة فى الحوارى والازقة فى مصر القديمة بأسرار ساكنيها وآهاتهم، لكن بين الجدران والجدران تتسع الشقوق، لبنى آدمين من لحم ودم.. بشر لا يملكون من قوت يومهم سوى القليل وكثير من قلة الحيلة، بنايات يطلقون عليها اسم بيوت لكنها أبعد ما تكون عن أى مسمى سوى شقوق يعيشون فيها.. تقودك إليها ممرات لا يعرف مداخلها ومخارجها وإلى أين تؤدى سوى من يسكنونها.. لا تتجاوز مساحاتها عن نصف متر بالكاد تسع لشخص واحد للمرور بينها، أو طفلان يلعبان بكومة قمامة أو بعض الحجارة.
على بعد مسافة لا تتجاوز نصف ساعة سيرا على الأقدام من حى مصر القديمة وبالتحديد بعد محطة أتوبيس عين الصيرة يمكنك أن تترجل حتى مقهى عمر عبد العال أو مدبغة محمد صابر، هناك لابد أن يرافقك أحد سكان المنطقة لمقصدك لأنه لا يمكنك المرور أو الدخول دون معرفة سبب تواجدك بالمنطقة ومن تقصد للزيارة، وإن كنت جئت لتلبى دعوة سيدة مسنه تحتاج سرير تنام عليه، وقتها فقط يمكنك الدخول، أو أن كنت تسأل عن أسرة تعيش داخل منزل مهدد بالانهيار بين لحظة وأخرى، أيضا يمكنك أن تقابل وتسمع الكثيرون فهم بالمئات، ينتظرون بين لحظة وضحاها وقوع كارثة بانهيار أحد المنازل على أصحابها ولا أحد يبالى.
أول مشهد سيقابلك لن تنساه ماحييت حجارة متناثرة وبيوت مهدمة وطرقات وأزقة ضيقة وبنايات يطلقون عليها اسم بيوت فى طريقها إلى السقوط وقمامة منتشرة وكلاب وقطط وأطفال ونساء تجلسن خارج بيوتهن مع بعضهن البعض هربا من الغرف التى تضم أكواما من اللحم ورجال وشباب يعملون فى كل المهن صنايعية ودباغين وملاحين كلها صناعات مرتبطة بصناعة دباغة الجلود، المنازل لا ترتفع لأعلى وانما تحت الارض عليك أن تنزل خمسة أو 6 أمتار تحت الأرض لتدخل أى منزل.
الطريق من الشارع الرئيسى وكلما تعمقت داخل المنطقة لن ترى سوى وجوه مرتابة منك، وأعين تطاردك، قد يفاجئك أحد شباب المنطقة بصوت متجهم وخشن يسألك "أنت مين وجاى هنا ليه؟ قد تستمع دون قصد لشاب يراود فتاه عن نفسها وتنهره بأبشع الألفاظ الخارجة، وقد تجد فجأه باب أغلق فى وجهك بقصد.
كانت إحدى النساء وهى محروسة اسماعيل أو أم أحمد كما يناديها نساء المنطقة هى مدخلنا للمنطقة لمعاينه المنزل الذى تعيش فيه وآيل للسقوط لم نكن نعلم أنه ليس منزل وانما شق بارتفاع ثلاثة أدوار يضم بينه 4 أسر يصل عددهم 23 شخص مابين طفل وسيدة ومسنين.
وبمجرد وصولنا لشارع جبرا ظريفة وهو اسم صاحب أقدم مدبغة فى منطقة المدابغ وقفت النساء بالمنطقة كل واحدة منهن تخبرنا أن البيت الذى تسكنه هو ايضا آيل للسقوط وان كل بيوت المنطقة تسند بعضها وكلها شروخ ولو بيت وقع هياخد الكل معاه ربنا يستر .
وهنا خرجت سيدة عجوزاسمها سعديه ووقفت قليلا صامته وفجأة تلعثمت بالكلام وقالت أسكن وحيدة فى بيت لا تسكنه إلا الأشباح باليل والنهار وجدرانه متشققة مثل "الأرض العطشانة.. وبصوت منخفض ووجه متذمر قالت سعدية" لا أتحمل العيش فى هذا المنزل وليس عندى قدرة على العيش فى مكان بعيد بسبب حالتى الصحية السيئة وانا أموت رعبا خوفا من أن ينطبق على المنزل وأموت تحت الأنقاض وأريد فقط سكنا أقضى فيه ما تبقى من عمرى وسرير أنام عليه.
وبعدها وقف الجميع يترقب ماذا سنقدم لهم، ثم اصطحبنا أكبرهم سنا وهو جابر سلام الضبع ذو الخمسة وستين عاما وهو يروى بدموعه كيف يقطتع من قوت يومه ويرمم الشرخ الذى يزداد يوما بعد الآخر ويحلفنا بأن نتوسط له فى حى مصر القديمة الذى يسمية حى " السعودى" كى يرمم له المنزل الذى يحميه هو وبناته وأولادة العشرة من العراء .
يفاجأك الظلام الدامس بمجرد دخولك للمنزل رغم أننا فى وضح النهار وتقودك درجات متهالكة لأعلى فلا تفزع أن رأيت سيده تضع قدمها على السلم والاخرى داخل دورة المياه وهى تغسل بعض ملابس ابنها أو زوجها فى طبق بلاستك تضعه فوق فتحة الحمام الذى لا يتجاوز عرضه وطوله نصف متر يربط بين الثلاثة أدوار الذى يسكن فيه 23 شخصا، رائحة العطب داخل البيت تؤكد لك أن آخر شىء ممكن أن يصل إليه هو الشمس.
من الدور الثالث كشف لنا عم جابر عن بداية الشرخ الذى توسع حتى وصل عرضة أكثر من 15 سم بارتفاع 3 متر للسقف وامتد لأسفل ليشق البيت بالطول حتى وصل للدور الأول ولم يكتف الشق فى أن ينهش المنزل بالطول ولكنه أيضا امتد بطول سقف وأرضية الغرفة والجانب الآخر من الغرفة ليصبح المنزل معلق على العروق الخشبية.
من غرفة داخل غرفة لملمت أم أحمد أثاث شقتها فى أحد الأركان واستخدمت الملابس الباليه لسد الشرخ الذى يزيد يوما بعد الآخر حتى اصبح بمثابة شق كبير ترى منه المدبغة المجاورة لها وتسمع عماله كأنهم معها فى نفس المنزل.
وقف عم جابر يحكى حكايته مع حى مصر القديمة منذ عامان وقت ظهور الشرخ فى البيت وهو يخرج بيده المشمع والقماش الذى يسد به الفجوة التى أحدثها الشق فى الحيطة ولم يفلح معها الأسمنت فى الثبات عليها فكلما زاد الشق نفر الأسمنت، ووقع قائلا: "بقالى سنتين رايح جاى عليهم وعملت محضر، ومحدش سأل فيه، نشف ريقى معهم ليأتوا ويعاينوا المنزل أو يرمموه، لكنهم ودن من طين وأخرى من عجين ومش قادر أسيب البيت وأروح فين أنا وكوم اللحم اللى فى رقبتى".
ولم يتمالك عم جابر نفسه وانهار باكيا وقال ربنا هو صاحب التصريف هو يسترها طالما الضعيف منداس"
الوضع لا يختلف من الدور الثالث للثانى وانما لجأت هانم إبراهيم زوجة حمدى سلام شقيق عم جابر فى تعليق ستاره بطول وعرض الحيطة لتدارى بها الشرخ الذى بدء يتشعب فى الحيطة الاخرى تروى قصتها هى و8 أفراد زوجها وبناتها وابنها وانهم لا يملكون من حطام الدنيا سوى هذه الجدران ولو وقعت هيبقوا فى الشارع مكتفية بكلمة "حرام اللى إحنا فيه دا مايرضيش ربنا".
وفى الدور الأول جلست زوجه عم جابر وبناتها وزوجات أبنائها العشرة ترتب الحجرة قائلة "والله إحنا كويسين بس هنعمل إيه قلة الحيلة الراجل كان شغال فى المدابغ والبيت دا اللى طلعنا بيه من الدنيا ولو جالنا قرش من باب الله بنحطه فى البيت والعيال بتقوم مرعوبة بليل من الخوف لو سمعوا صوت خايفين أن البيت يكون بيقع".
وقبل أن نغادر المنزل طالبنا من عم جابر أن يوجه كلمة للرئيس السيسى فإذا به يكتفى بقوله: "هقوله إيه، هقوله لا إله إلا الله محمد رسول الله، مش عايز غير سلامته وربنا ما يحرمناش منه ويخلهولنا، أنا مش عايز عربية ولا عايز عمارة أنا عايز أعيش بس".
تركنا الدرب خلفنا متخذين طريق اخر للخروج غير الذى دخلنا منه وظل سؤال يردد نفسه، ماذا يحدث لو شب فى هذا المكان حريق أو انفجرت أنبوية بوتجاز، ماذا يحدث لو أصيب أحدهم بأزمة قلبية كيف ستدخل له سيارة الإسعاف ولن نجد سوى كلمة واحدة" سيموتون دون أن يدرى بهم أحدا هكذا مصير من يعيشون فى الشقوق".
بالفيديو والصور..حكايات أسر فى الشقوق بمصر القديمة..بنايات مهددة بالانهيار وسط تجاهل الحى للشكاوى..الحياة بين ممرات لا يتجاوز عرضها نصف متر..الفقر والمرض بحجم القهر..أحلام الأهالى سرير ومعاش و4 جدران
الأحد، 22 فبراير 2015 07:12 م
عقارات بمصر القديمة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة