نقلا عن العدد اليومى...
فى قرى مصر يعانى الآلاف من مرض السرطان، لا يعرفون له سببا أو علاجا، يعتبرونه ابتلاء من الله، ويخافون من مجرد الحديث عنه أو الإفصاح عن إصابتهم به، حيث رتبوا أنفسهم على العيش بمعاناتهم بدلا من إهدار الأموال على علاجات لا تسمن ولا تغنى من جوع.
«اليوم السابع» رصدت القرى التى تعانى بأربع محافظات، لتكشف عن أرتفاع نسب الإصابة المحاطة ببحيرات مثل «شطا» بمحافظة دمياط التى تطل على بحيرة المنزلة، والقرى المحاطة بمصانع ملوثة مثل «مشلة» بالغربية، و«أبيس» بالإسكندرية، إضافة إلى القرى التى تستخدم المبيدات بشكل مفرط مثل «أبوعزباوى» بالشرقية.
اختيارنا لهذه المحافظات جاء بناء على ما تسجله هذه المحافظات من نسب مرتفعة للإصابة بالمرض، مع مراعاة الظروف المعيشية التى يقاومونها، والتى تعد من أسباب الإصابة بالمرض فى الوقت الذى رفض فيه المسؤولون إعطاءنا إحصاءات رسمية عن نسب الإصابة بكل محافظة.
الشرقية/ فى قرية «أبوعزباوى» السرطان يوجد كالماء والهواء المرض فتك بأكثر من 200 شخص فى كيلو متر واحد
مصاب بالسرطان فى كل بيت، هكذا كان الوضع فى قرية «أبوعزباوى» بقرية وادى الملاك التابعة لمركز أبوحماد بمحافظة الشرقية التى يعانى نحو 160 من أبنائها من مرض السرطان.
%90 من المصابين بالقرية يعيشون فى مساحة كيلو متر مربع، هكذا قال «عبدالله الداوودى» عضو اتحاد الملاك للتنمية الحضارية، مضيفا «اكتشفنا بداية إصابة القرية بالمرض منذ نحو 4 سنوات، لكن معدل الإصابة يسير بمعدل بطىء جدا».
«الداوودى» أضاف «فى عام 2012 فاق معدل الإصابات كل التوقعات حتى وصلنا فى 6 أشهر إلى 225 حالة، متنوعة ما بين سرطان الدم والمثانة والكبد والثدى والمخ والفم، بكل الفئات العمرية يمكن القول بأن الوباء يضرب القرية».
المثير للجدل كما يكشف «الداوودى» أن معدلات الإصابة بالسرطان تتركز فى محيط لا يتجاوز الكيلو متر ما استدعى التواصل مع وزارة الصحة بالشرقية التى قامت بإيفاد لجان مختلفة من كلية الطب بجامعة الزقازيق لمسح القرية.
سعيد عبدالحميد البالغ من العمر 42 عاما بات يواجه الحياة بوجه شاحب، بعد أن شرع السرطان فى الهجوم على جسده النحيل، لا يجيد الحديث عن حالته المرضية فهو كباقى الفلاحين الذين يعتبرون أن الإصابة بالسرطان كالعار الذى لحق بهم، لابد من المداراة عليه ولا يجب التحدث فيه حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا.
«عبدالحميد» العامل باليومية يصف حالته بإصابته بحالة من الإعياء التى تتطلب نوما عميقا لساعات طويلة، حتى نصحه المقربون بضرورة العرض على الطبيب الذى شخص إصابته بغدة قائلا له «لا داعى للقلق».
أدوية الغدة التى تعاطاها «عبدالحميد» لم تجدِ نفعا معه بعد شهرين متواصلين، فقام بزيارة أخرى للطبيب الذى كشف النقاب عن إصابته بسرطان الغدد الليمفاوية والتى تحتاج إلى العلاج بجلسات الكيماوى.
ازدادت نحافة عبدالحميد لكنه بدأ يشعر بتحسن فى جسده لكن ذلك لم يدم سوى بضعة أشهر حيث عاود السرطان الظهور من خلال ورم فى بطنه لتبدأ رحلة الكيماوى من جديد.
عبدالحميد الذى يعد أول حالة أصيبت بالسرطان فى «أبوعزباوى» يعول 5 أطفال، وتكلف علاجه نحو 50 ألف جنيه بحسب قوله، وهو يقول إن السرطان لم يتوقف عند ذلك الحد لكنه امتد ليأكل العصب الخامس حتى مات فأصبح محتاجا إلى زرع قرنية.
تكاليف زرع القرنية وحدها ليست كفيلة بإثناء عبدالحميد عن إجراء العملية لكنه متخوف من انتشار المرض بشكل أشرس مما عليه الآن هو ما يمنعه من إجراء عملية الزرع، فبحسب وصفه «خايف أضرب مشرط فى وشى المرض ينتشر». على سطح منزل ابنه يجلس أحمد أبوإسماعيل البالغ من العمر نحو 60 عاما يتداوى بالشمس من برد الشتاء لكن ذلك لم يمنع السرطان من الهجوم.
«أبوإسماعيل» الذى اكتشف إصابته بالخبيث فى المثانة، فتم تحويله إلى مستشفى الإسماعيلية لكن عدم وجود سرير له بالمستشفى حال دون خضوعه للعلاج، فعاد مرة أخرى إلى مستشفى الزقازيق الذى طالبه بإجراء عملية جراحية.
الرجل حكى عن مرضه قائلاً: «تم استئصال نحو 40 سنتيمتر من الأمعاء لتكوين مثانة صناعية فى أعقاب استئصال المثانة المصابة، إلا أن السرطان «عامل زى عش الدبابير مينفعش تهاجمه ويسيبك فى حالك»، هكذا يصف أبوإسماعيل حالته.
وأضاف «بعد إجراء العملية وفترة شفاء استمرت نحو عامين وقبل أسبوعين فقط أصبت بمغص شديد، الأمر الذى احتاج إلى مسكنات لكنها لم تشفع فى إيقاف الألم الذى تزايد بشدة حتى تم تشخيصه سرطانا أدى إلى انسداد فى الأمعاء».
عطا عبدالرحمن السيد 35 عاما ذهبت للطبيب لاستئصال كيس دهنى، لكن ذلك لم يوقف الألم فعاودت الذهاب إلى الطبيب الذى شخص حالتها بسرطان ثدى يستلزم استئصال الثدى الأيسر مع الخضوع للعلاج الكيماوى.
السيدة الثلاثينية العاملة باليومية فى مجال جمع الخضراوات والفواكه من المزارع قالت «أواجه بمفردى المرض ومتطلبات الحياة بعد أن ترك زوجى المنزل قبل نحو 7 سنوات».
«عطا» رفضت التقاط صورة لها بسبب معايرة الأطفال لأطفالها الثلاثة بسبب مرض والدتهم، مما جعلهم يتغيبون عن المدارس ويتخفون من أعين زملائهم.
فوزية فوزى، 30 سنة، تحكى عن وفاة زوجها الذى توفى قبل أسابيع بسبب إصابته بسرطان بالغدد الليمفاوية بالرقبة قائلة «لم يطل المرض فبدأ بنقصان ملحوظ فى الوزن مع ألم فى البطن صاحبه تضخم فى الكبد والطحال استمر لمدة ثلاثة أشهر بعدها توفى».
بعد حصار المرض للأهالى أوفدت كلية الطب بجامعة الزقازيق قافلة للتحقق من سبب انتشار السرطان بها لعمل استقصاء وبائى بدراسة جغرافية الأماكن التى بها حالات مصابة، وتم أخذ عدد من العينات من الأطعمة والمياه.
اللجنة توصلت إلى أن هناك نوع امن الملح «ملح أمينى» يستعمل فى القرية، لكن أحدا لم يقتنع بذلك، ما استدعى قافلة أخرى أكدت استخدام فلاحى القرية مبيدات تصنع محليا، وأنواع أخرى من الهرمونات مجهولة المصدر إسرائيلية المنشأ تسرع انضاج الثمار.
اللجنة ذكرت أن المبيدات أحد المسببات القوية للمرض بنسبة تصل إلى %90 لاحتواء الغذاء على جرعات من هرمونات الانضاج أكثر من المعدل الطبيعى للنبات، كما تؤثر على الخصوبة وتزيد من حجم الكبد.
وقالت اللجنة إن الأهالى فى مصر يستخدمون المبيدات الزراعية بطريقة عشوائية، وهو ما يوجب تحركا فوريا من الدولة للحد من الآثار السلبية التى تظهر من الإصابة بالسرطان، ثم الفشل الكلوى، ثم فيروس سى.
دمياط/ بحيرة المنزلة تبث سمومها بين الصيادين فى «شطا»نقيب الصيادين: 50 حالة وفاة العام الماضى بسبب السرطان
«شطا» قرية صغيرة بمحافظة دمياط، تقع على المدخل الشرقى للمحافظة، عدد سكانها حوالى 25 ألف نسمة، وتبعد مسافة 3 كيلو من المحافظة، وهى واحدة من أكثر المناطق التى ينتشر بها مرض السرطان.
الطريق للمدخل الشرقى للمحافظة متعرج تنقصه العديد من الخدمات، القمامة المتراكمة فى جميع أنحاء القرية، والعشوائية الشديدة تلفت الانتباه، كما تحيط القرية شركة السماد العضوى ومحرقة النفايات الطبية، ويعمل أغلب مواطنيها بالصيد ببحيرة المنزلة المشهورة بارتفاع نسب التلوث.
ووفقا لإحدى الدراسات الحديثة التى أعدها الدكتور حسين الشافعى أستاذ الكيمياء الحيوية، فالبحيرة بها تلوث ناجم عن مياه الصرف الصحى والصناعى والزراعى غير المعالج وبها معادن ثقيلة تعد من أخطر الملوثات على البيئة المائية وصحة الإنسان.
وتكمن خطورة التلوث فيما تحمله هذه المياه من معادن ثقيلة أهمها الرصاص والزرنيخ والحديد والكادميوم، والزئبق ومصدرها المصانع التى تلقى بمخلفاتها فى مياه مصرف بحر البقر أو على شبكات الصرف الصحى الرئيسية فى المدن والقرى، التى تلقى مخلفاتها فى بحيرة المنزلة مباشرة، وكذلك صرف المنطقة الصناعية جنوب بورسعيد وشركات البترول والغاز، حتى إن نسب التلوث فى مياه وتربة بحيرة المنزلة أعلى منها فى جميع بحيرات مصر ونهر النيل.
ما سبق يشرح ببساطة سبب انتشار مرض السرطان بين أغلب سكان القرية، والذى تتعدد أنواعه ما بين سرطان الكبد وسرطان الحنجرة وسرطان الدم، ويعتبر سرطان الكبد الأكثر انتشارا فى المنطقة بسبب التلوث.
الحديث عن مرض السرطان ليس سهلا، خاصة مع وجود تحفظ شديد على إعلانه من قبل سكان القرى الذين ينظرون إليه بإعتباره «وصمة عار»، على الرغم من تعدد الحالات بالقرية بين الكبار والصغار والسيدات والرجال.
فى بيت ريفى بسيط يسكن «سيد بدر» الذى تجاوز الستين، الرجل الذى عمل صيادا منذ صغره يقول عن مرضه «فوجئت بورم فى ذراعى الأيسر وأجريت عددا من الإشاعات، رفض الطبيب المعالج بعدها إبلاغى بالمرض المصاب به، توجهت بالأشعة بعدها لطبيب آخر فأكد لى إصابتى بسرطان الكبد».
عم سيد لا يعرف سبب إصابته بمرض السرطان وهو بالنسبة له «ابتلاء من الله»، ولا يفكر كثيرا فى الظروف المعيشية المحيطة به، كما لا يعبأ بتلوث بحيرة المنزلة التى يغطس فيها طالبا للرزق وصيد الأسماك، حيث يقول «لأ أعرف سبب المرض ولم يخبرنى به الطبيب المعالج، فقط قال إننى أحتاج لعلاج كيماوى طوال حياتى لا أتوقف عنه إضافة إلى المتابعة بمعهد الأورام بالمنصورة الذى تلقيت به العلاج».
ويتذكر الرجل نصائح الأطباء بعدم تناوله أنوعا معينة من الأطعمة بأسى قائلاً: «منعنى الطبيب من كل الأطعمة التى أحبها، لكن هذا قضاء الله».
عطية عبدالعراقى 43 سنة مواطن آخر من شطا تعرض لإصابة بسرطان فى الحنجرة ولا يعلم سببها، صعب على عطية الحديث بعد إجرائه عملية قريبا أزال بها الحنجرة لكن زوجته قالت: شخّص الطبيب المعالج حالته باعتبارها بحة فى الصوت، واختناقا حنجريا، وطالبه بإجراء عملية جراحية فى الحال بإزالة الحنجرة حتى لا تتدهور الحالة المصابة.
من جانبه قال أحمد المغربى نائب رئيس نقابة «صيادين شطا» إن المنطقة بها نسبة عالية من التلوث، ولا تهتم المحافظة بها رغم وجودها على المدخل الشرقى لها، مضيفا «الصيادون بها معرضون لمخاطر عديدة، بسبب عملهم ببحيرة المنزلة التى تسجل أعلى نسب للتلوث».
وأضاف «المغربى»: «توجد مئات الحالات المصابة بالمرض فى القرية، أغلبهم يرفض الإفصاح عن حالته، خوفا من ابتعاد الناس عنه، إضافة إلى من توفى من المصابين الذين وصل عددهم العام الماضى إلى 50 حالة وفاة بسرطان الكبد».
وأوضح «المغربى» أن أغلبهم يخضع للعلاج بمعهد الأورام بدمياط، ووفقا له فمدير المعهد أكد لهم أنهم معرضون لمشكلة كبرى بعد عشر سنوات سيزداد فيها المرض.
الدكتور طارق هيكل نائب مدير معهد الأورام بدمياط قال إنه لا توجد إحصائيات أو أرقام عن نسب الإصابة بمرض السرطان بشطا، مؤكدا أن عدد المرضى لم يزيد منذ عام 2000 حتى الآن.
وأضاف «هيكل» أن سكان قرية شطا معرضون للإصابة بالسرطان لوجودهم بجانب بحيرة المنزلة، موضحا «كل سكان القرى الموجودين بجوار بحيرات مغلقة مثل المنزلة، والبرلس، معرضون للإصابة بأمراض سرطانية لارتفاع نسب التلوث بالبحيرة».
مدينة المطرية بمحافظة الدقهلية، تتشابه مع «شطا»، حيث يعمل أغلب سكانها بالصيد من بحيرة المنزلة وتنتشر بها الإصابة بأمراض السرطان أيضا، ورغم أنه من الصعب حصر عدد المصابين فى المدينة لارتفاع كثافة سكانها، فإن عددا كبيرا من الصيادين بها مصابون بالمرض وبها حالات وفاة كثيرة من مرض السرطان.
نقيب الصيادين بالمدينة أكد فى تصريحات صحفية لـ«اليوم السابع» «أن أغلب الصيادين يتعرضون للإصابة بالسرطان وزوجاتهم أيضًا بسبب نزولهم فترات طويلة فى البحيرة الملوثة بالمعادن الثقيلة، إضافة إلى استخدام مياه الصرف الصحى فى رى الأراضى الزراعية، وشرب المياه الملوثة».
محمد صالح 36 عاما تعرض لإصابة بسرطان الثدى، ليست الوحيدة، إذ يشبهها عدد كبير من الحالات بين الصيادين وزوجاتهم الذين لقوا حتفهم جميعا بسبب المرض ولا يعرفون له سببا ولا يجدون له علاجا.
الغربية/ المرض الخبيث ينهش أجساد الأطفال فى قرية «مشلة» 3 وفيات فى أقل من شهر.. والطفلة «جنى» أحدث حالات الوفاة.. والطفل أحمد ياسر: الرئيس وعد بحل المشكلة دون جدوى وأختى «شهد» آخر الضحايا
بدأت «جنى محمد الحمراوى» التى لم يتجاوز عمرها 3 سنوات تعانى الإرهاق والإعياء التام قبل نحو أربعة أشهر، حيث توالت عليها نوبات الإغماء المستمر والضعف العام، مع عدم القدرة على الحركة، بالإضافة إلى ظهور حبوب فى وجهها.
اعتقد والدها أن ما تعانيه ابنته لا يتجاوز أمراض الأطفال المعتادة فى مثل هذه السن، لكنه سمع الطبيب يقول «جنى مصابة بسرطان الدم»، مطالبا بخضوعها للعلاج الكيمياوى المكثف، هكذا قال والدها محمد الحمراوى مضيفا «بالفعل تحسنت جنى سريعا».
وأضاف «فوجئنا قبل نحو شهر بتدهور الحالة الصحية لـ(جنى) التى قال طبيبها إن المرض عاد ليهاجمها من جديد، وهو ما استدعى خضوعها من جديد لجلسات الكيماوى، مع الحاجة إلى زراعة نخاع نظرا لحاجتها إلى 4 صفائح دم يوميا».
مكثت «جنى» فى المستشفى قبل أن تخرج منها لتعلن عن هزيمة جسدها الصغير أمام غزوات السرطان الشرسة، فتوفيت قبل أيام قليلة، مسجلة ثالث حالات الوفاة فى القرية فى أقل من شهر.
«جنى» واحدة من نحو 35 طفلا مصابا بسرطانات مختلفة فى قرية «مشلة» التابعة لمدينة كفر الزيات بمحافظة الغربية، فالمرض الخبيث لا يفرق بين كبير وصغير، فهو يستوطن أجساد نحو 19 حالة ممن تجاوزوا سن 35 عاما، بالقرية التى سجلت الشهرين الماضيين 6 حالات إصابة بمرض السرطان، كما توفى ثلاثة أطفال قبل أيام قليلة نتيجة لغزوات السرطان فى أجسادهم.
«مشلة» التابعة لكفر الزيات تعيش بدائرة مفرغة، فلا توجد خدمات للصرف الصحى بها، حيث قام الأهالى بإنشاء «طرنشات» أسفل بيوتهم على أن تقوم جرارات الكسح بتفريغها دوريا فى مصرف «دنشواى» القادم من المنوفية ليصب مخلفاته، قبل مأخذ محطة المياه، ليعود الصرف الصحى إلى الأهالى مرة أخرى عن طريق كوب المياه.
عدم ثقة الأهالى فى مياه الشرب جعل الأهالى يلجأون إلى الطلمبات الحبشية التى تستقى مياهها من جوف الأرض، بعد أن تكون قد تشبعت بمياه الصرف الصحى، ما تسبب فى إصابة نحو %25 من أهالى القرية بالفشل الكلوى.
الصرف الصحى ليس أزمة وحيدة، لكن المخلفات الزراعية ومخلفات الأهالى والقمامة تلقى أيضا فى ترعة «النعناعية» التى تشق القرية إلى نصفين، كما تعتبر المورد الوحيد لرى نحو 750 فدانا بالقرية التى يبلغ تعداد سكانها نحو 15 ألف نسمة ليعود الصرف مرة أخرى إلى أهالى القرية على طاولة الطعام.
«محمد الحمراوى» والد «جنى» العامل باليومية يقول «نرى بأنفسنا تلوث المياه لكننا لا نستطيع الاستغناء عنها»، موضحا أن مياه الصرف الصحى أحد أسباب الإصابة بالسرطان إلى جانب استخدام المبيدات الزراعية.
«أحمد ياسر» طفل لم يتجاوز عامه السادس، لم يكن أمام والده سوى اللجوء إلى طبيب معالج لإجراء التحاليل والفحوصات الطبية الشاملة التى أظهرت معدلا قياسيا من تزايد مستمر لكرات الدم البيضاء والتى بلغت نحو 125 ألفا، وهو ما رآه الطبيب المعالج إصابة باللوكيميا أو سرطان الدم.
لم يصدق والد الطفل ما يسمعه من الطبيب بشأن تشخيص مرضه طفله، لم يخبر أحدا من أقاربه بما حل بنجله، وخلال شهرين تردد على عيادات نحو ثلاثة أطباء مختلفين بين القاهرة والمنصورة وطنطا ليتأكد من صدق ما زعمه طبيبه المعالج، حتى ضاقت به السبل فلم يجد أمامه مفرا من التوجه نحو القاهرة لزيارة مستشفى 57357 ليتأكد من ذلك، ويبدأ بعدها رحلة العذاب مع المرض الخبيث والتداوى بجلسات مكثفة بجلسات «الكيماوى».
«ياسر المسيرى»، والد الطفل «أحمد» المصاب بالسرطان فى الدم والذى يعالج بمستشفى 57357 قال: نعيش فى قرية مشلة وكفر مشلة ومنشأة سليمان دون مياه شرب نظيفة، أو محطة صرف صحى، ودون وحدة صحية تقدم خدمة طبية للأهالى الذين استوطنتهم أمراض السرطان والفشل الكلوى و«فيروس سى»، والبلهارسيا، بسبب تلوث مياه الشرب واختلاطها بمياه الصرف والمجارى، مضيفا «الأطفال أكثر إصابة ووفاة بالمرض من الكبار».
وأضاف: «أحمد نجلى مصاب بالسرطان منذ ستة أشهر تقريبا، وهو ليس الوحيد، أصيب نحو 35 شخصا بالقرية بالمرض على مدار الـ3 سنوات الماضية، فمن بين أطفالنا من تم استئصال كليته أو جزء من كبده أو عينه، فنحن وأطفالنا صرنا تحت رحمة السرطان الذى يهاجم بقسوة».
وتابع «إصابة أحمد كانت خارج توقعاتى، وخاصة أن أحدا من عائلتنا لم يكن يعانى ذلك المرض، بالإضافة إلى صغر سن الطفل الذى لم يتأثر بعد بمياه أو طعام أو هواء ملوث، كما أنه لم يتعرض لأى من المواد الإشعاعية»، مضيفا أنه قام بتحرير محضر ضد مسؤولى وزارة الصحة ومسؤولى محافظة الغربية وشركة مياه الشرب والصرف الصحى حمل الرقم 53 أحوال مركز كفر الزيات يتهم فيه «الصحة» وشركة مياه الشرب بأنهما السبب فى إصابة نجله وعدد كبير من أهالى القرية بمرض السرطان.
وقال إن السبب فى تفشى المرض تلوث مياه الشرب، واختلاطها بالمخلفات الصناعية إلى جانب أن مواسير المياه فى القرية محرمة دوليا ورغم ذلك تم وضعها فى عام 2004 ولم تغير حتى الآن، ما عرض الأهالى للإصابة بأمراض الفشل الكلوى والسرطان، مطالبا بتشكيل لجنة من كليتى العلوم والطب ومعهد الأورام لتحليل المياه ومعرفة أسباب انتشار المرض فى القرية.
الطفل الصغير الذى لم يتجاوز عامه السادس يسير مغطيا رأسه للتغطية على ما أصاب رأسه جراء جلسات العلاج الكيماوى، حيث تأثر شعره وضعف جسده وتغيرت ملامح وجه، «أحمد ياسر المسيرى» قابل رئيس الجمهورية «عبدالفتاح السيسى» قبل شهرين، حيث وعد الرئيس محافظ الغربية بالعمل على حل مشكلات القرية إلا أن شيئا لم يتغير فى القرية سوى تعليق صورة لـ«السيسى» والطفل فى مدخل القرية فلا صرف تم بدء العمل فيه، ولا متابعة من مسؤولى المحافظة لجرارات كسح الصرف.
أحمد ياسر قال «لما قابلت السيسى كنت مبسوطا، لكن المسؤولين ضحكوا علينا ومفيش حاجة حصلت فى البلد، مضيفا أختى (شهد) ماتت من كام يوم بسبب استمرار الإهمال».
«شهد» التى حكى عنها «أحمد ياسر» ليست أخته، لكنها إحدى فتيات القرية التى تسبب مرض السرطان فى وفاتها بعد رحلة إصابة لم تكمل الخمسة أشهر، شهد التى توفيت قبل أن تكمل عامها الرابع لم يتبق منها سوى صورة شخصية معلقة فى منزل الطينى البسيط المكون من غرفة وحيدة وصالة استقبال زوار جلست فيها والدتها «حنان» تروى «أصيبت الطفلة بهالات سوداء وحمراء فى أنحاء متفرقة من جسدها اعتقدت أنها مصابة بالحساسية، إلا أن المرض الخبيث كان قد بدأ هجومه الشرس على كلية الطفلة اليسرى، هكذا أكد الطبيب المعالج».
لم يكن أمام عائلة «شهد» إلا التوجه إلى معهد أورام طنطا الذى رفض استقبالها لعدم وجود أماكن، فتوجهت إلى معهد ناصر بالقاهرة لاستئصال الكلية والبدء فى العلاج الكيماوى، فضلا عن حاجتها لإجراء عملية زرع نخاع بالمعهد القومى للأورام.
والدة شهد أضافت «الحالة المادية سيئة للغاية، زوجى عامل اليومية لكنه تمكن من إجراء مسح ذرى له ولى ولطفلى الصغير للتأكد من سلامتنا، لكن شهد لم تكمل رحلة علاجها بسبب وفاتها»، وتشير إلى طفلها الصغير قائلة «لا أعرف مصيره حتى الآن، هل مصاب أم معافى، نعيش فى حيرة من أمرنا».
قطار الإصابات لم يتوقف بعد فى قرية «مشلة»، فالسرطان بالنسبة لـ«أنس» الطفل الصغير الذى لم يتجاوز العاشرة أجبره على استئصال كليته اليمنى، لكن والده رفض التحدث عن حالة طفله مكتفيا بالقول «شبكة مياه الشرب فى القرية متهالكة وليست هناك شبكة صرف صحى».
أحمد بكر مدير مركز شباب قرية «مشلة» قال: «لا نستطيع تحديد سبب السرطان الذى يهاجم أطفال وشباب وشيوخ ونساء القرية، لكننا نستطيع تحديد مصادر التلوث فى المياه والأكل والهواء»، مضيفا «مياه الشرب ملوثة بمخلفات صناعية ما دفع الأهالى إلى الاستغناء عن الحنفية وإنشاء طلمبات حبشية بمنازلهم لكنهم فوجئوا بعد فترة بإصابة العديد منهم بالفشل الكبدى بسبب احتواء المياه الجوفية على عناصر الحديد والرصاص والزنك والمنجنيز بسبب وجود طرنشات مياه الصرف الصحى الموجودة أسفل المنازل».
فى الوحدة الصحية بقرية «مشلة» لم يكن هناك سوى فرد واحد ليس دكتورا ولا ممرضا، اكتفى بالنوم ممدا فى مدخل القرية، بينما يجرى على بعد لا يتجاوز 200 متر مصرف «دنشواى» الذى وقف أمامه «جرار الكسح» ليلقى مخلفات الصرف الصحى فيه.
السرطان ليس المرض الوحيد الذى يهاجم «مشلة»، لكن هناك نحو 24 حالة يومية من الأهالى يحتاجون لغسيل كلى بسبب إصابتهم بفشل كلوى فيما تعانى 12 حالة أخرى ضمورا فى خلايا المخ.
الإسكندرية/ أورام الرحم وباء يحاصر سيدات «أبيس» سرطان الدم والكبد ينتشران بين الكبار والأطفال.. وأستاذ بطب الإسكندرية يطالب الدولة بتحديد نسب الإصابة بشكل دقيق
على بعد نصف ساعة من محافظة الإسكندرية توجد قرية «أبيس» القرية التى تنقسم لثلاثة أجزاء، كل جزء منها يتبع محافظة، ترتفع بها نسب الإصابة بمرض السرطان لعدة أسباب أولها: وجود مصنع للسماد العضوى على مدخل القرية، و17 ورشة لتشكيل المعادن، بالإضافة إلى استخدام المبيدات الزراعية الخطرة والمياه الملوثة.
المصابون بالسرطان يرفض ذووهم إعلامهم بمرضهم، هكذا قال «هشام العبسى» الذى أكد أن المواطنين يجهلون أى معلومة عن مرض السرطان أو كيفية التعامل معه أو أسبابه، بل إن أغلبهم لا يملك القدرات المادية للعلاج ويعتمد على التبرعات من أهل الخير.
ويضيف «العبسي»: «ينتشر مرض السرطان بدرجة كبيرة بين سكان القرية بسبب ما نعيشه من تلوث، وما نتعرض له من انبعاثات يومية من مصنع السماد، إضافة إلى المياه الملوثة».
لدى أبناء القرية معاناة أخرى تتمثل فى عدم تجهيز الوحدة الصحية، حتى إن بعضا منهم يشبهها باستراحة الرؤساء من حيث التجهيزات المتواضعة، حيث يقول الأهالى «بعد الثانية عشرة ظهرا لا تجد أحدا، مما يضطر الأهالى إلى الذهاب إلى المستشفيات بالإسكندرية وقطع مسافة مدتها لا تقل عن نصف ساعة».
فى القرية الحديث عن أن امرأة لديها ورم بالرحم عادى، ففى شارع واحد بالقرية هناك خمس سيدات قمن باستئصال الرحم نتيجة ظهور أورام به، السيدات التى تحتفظ «اليوم السابع» بأسمائهن قلن إن الأطباء طالبوهن بضرورة استئصال الورم، مضيفات «لا نعرف له سببا، كغيرنا من سكان القرى نعتبره ابتلاء ربانيا». محمد إبراهيم أحد الأطفال لم يكمل عامه الثانى بعد حتى اكتشف أهله إصابته بسرطان الدم، وعن ذلك تقول والدته «فى البداية كانت علامات المرض تشبه البرد وعندما ذهبنا للطبيب أعطانا دواء وشخّص المرض بأنه حساسية على الصدر، بعدها استمر المرض فذهبنا مرة أخرى للطبيب قال إنه يحتاج لعملية إزالة اللوز، وبعد إجرائها استمر التعب فذهبنا لطبيب آخر أجرى عددا من التحاليل والإشاعات أكد بعدها أن طفلى مصاب بسرطان فى الدم».
لا تعرف الأسرة سبب إصابة نجلها بالمرض أو ماذا حدث، ما تعرفه فقط أن لديهم ابنا لم يتم عامه الثانى، ويخضع لجلسات الكيماوى المكثف.
محمد حسن شعيب، 53 سنة، أحد المصابين بسرطان الكبد فى القرية يقول «كنت أعمل بشركة العامرية للغزل والنسيج حتى أحلت للمعاش، بعد إصابتى بفيروس سى»، مضيفا «قبل أيام قليلة فوجئت بظهور ورم فى كتفى الأيسر، شخصه الأطباء على أنه سرطان فى الكبد، أخضع الآن للعلاج الكيماوى، الورم مستمر رغم ذلك فى أعلى صدرى الأيسر ولا أعرف سبب عدم اختفائه حتى الآن».
«عم محمد» يكافح ليتم كلماته، مؤكدا أن لديه ثلاثة أبناء وأسرة، سقط عائلها الوحيد مريضا ويحتاج لمصروفات كبيرة للعلاج.
الدكتور «شريف شوقى» أستاذ الصحة العامة بجامعة الإسكندرية، قال إن «أبيس» واحدة من أكثر القرى التى ينتشر بها السرطان لعدة أسباب منها المياه الملوثة، والمبيدات الزراعية، إضافة إلى جهل المواطن بالمرض، فالمريض لا يجرى أى كشوفات للتعرف على حالته، قائلاً: «دائما يأتى المريض فى آخر مراحل المرض ويصعب إنقاذه».
وأضاف «شوقى» أن للدولة دورا فى هذا لعدم إجرائها مسوحا كاملة للمناطق لكشف مرض السرطان مبكرا، فضلا عن تقصيرها فى محاربة التلوث فى المنطقة، متابعا «مسببات السرطان كما يؤكد ترتبط بالمبيدات، أو التلوث الناتج عن المصانع المتواجدة بجوار المناطق السكنية».
وأوضح أن مرض السرطان له أسباب وراثية أيضًا منها زواج الأقارب أو إصابة أب أو جد بالعائلة بالمرض، نافيا وجود إحصائية تثبت ارتفاع نسب الإصابة بمرض السرطان فى الريف عنه فى المدن.
وطالب الدولة بالقيام بمسح للمناطق المعرضة للإصابة بالسرطان وتقسيمها حضر وريف ومناطق صناعية، للتعرف على نسب الإصابة بشكل دقيق.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة