وقفت «ياسمين» صاحبة الجسد النحيل تمد يدها الصغيرة الخشنة بين أشجار المزرعة لتقطف زهور الياسمين، كلما جمعت 10 زهور تلقيها فى سلة تمهيدا لتوصيلها إلى مصانع إنتاج عجينة الياسمين فى مصنع القرية المجاورة.
وراء زهور الياسمين البيضاء ورائحتها الذكية التى يتهافت عليها أبرز العواصم الأوربية أمراض خبيثة لا يشعر بها أحد سوى العاملين فى مجال قطف زهور الياسمين الذى يتسب فى انتشار أمراض الربو وحساسية الصدر وحساسية الأنف وأمراض الجهاز التنفسى والرئة بين العاملين فى قطفه، وذلك بحسب دراسة قامت بها عدد من المنظمات الحقوقية والطبية العاملة بالدلتا من بينها مؤسسة رسائل الغد لحقوق الإنسان كشفت عن تدهور الحالة الصحية لمزارعى الياسمين، وإصابة أكثر من 5 آلاف شخص من العمال والربو والحساسية وأنواع من الأورام السرطانية.
«ياسمين» تلك الفتاة التى لم تكمل عامها العشرين بعد تعمل فى قطف الزهور منذ ما يقرب من السنوات الخمس تنتج للعالم مع أقرانها فى قرى شبرا بلولة وسعدون وصرد والشين وأبوحمر بمركز قطور التابع لمحافظة الغربية بدلتا مصر نحو %40 من احتياجاته من الزيوت العطرية وخاصة عجينة وزيت الياسمين التى تستوردها دول فرنسا وأمريكا وسويسرا واليابان، حيث تعد مصر من أهم الدول المنتجة للزيوت العطرية مع الهند الصين وأندونيسيا وجنوب أفريقيا وتونس والبرازيل وأمريكا.
وبحسب الدراسة التى تركزت فى قرى مركز قطور التى تعتبر الأكبر على مستوى الجمهورية فى زراعة النباتات الطبية والعطرية العالمية، وخاصة زهور الياسمين، تبلغ المساحة المنزرعة من هذه النباتات فى مركزى قطور وبسيون حوالى 2180 فدانًا، منها %60 بقرى مركز قطور، و%70 من ساكنى المركزين يعملون بالزراعة فى هذا المجال، ويوجد نحو 15 مصنعًا لتعبئة العطور؛ منها 9 فى قطور و6 فى بسيون، وتبلغ إنتاجية محصول الفدان من 4 إلى 5 أطنان سنويًّا، يقوم المصنع باستخراج 2 كيلو زيوت من كل طن من الزهور.
وأكدت الدراسة أن هذا النبات له قيمة اقتصادية عالية؛ فهو لا يقتصر استخدامه على العطور فحسب، ولكن يستخدم أيضًا فى الصناعات الغذائية كالتوابل ومكسبات الطعم وأيضًا فى صناعة الأدوية.
تكره الفتاة الياسمين لكنها تجزم بأن هناك أصحاب مزارع يعشقون هذه الزراعة التى تدر عليهم أموالا طائلة كل موسم.
قبل الساعة الخامسة فجرا تكون «ياسمين» على رأس خطها مستعدة لقطف الزهور برفقة نحو 50 إلى 60 عاملا هكذا يقول محمود شهاب أحد أصحاب المزارع، مضيفا: يستمر الإنتاج لنحو ستة أشهر أو تزيد قليلا من جنى الزهور يوميا تبدأ من منتصف شهر مايو إلى منتصف ديسمبر، ويتابع: المحصول فى سنته الأولى لا يعطى إنتاجا غزيرا لكنه الكثافة الإنتاجية تبدأ من العام الثانى، فمع الرعاية والاهتمام بالأرض يصل الإنتاج إلى نحو 120 كيلو للفدان يوميا.
الفدان يتكلف فى زراعته نحو 12 ألف جنيه سنويا فيما يدر ربحا يتجاوز الـ30 ألفا بحسب قول شهاب الذى يمتلك فدانين يزرعهما بالياسمين أن الفدان الواحد يحتاج إلى 1000 شجرة تنتج الشجرة الواحدة من 100 إلى 120 جراما فى اليوم الواحد.
ما يجعل ياسمين وأقرانها وأهلهم يتهافتون على قطف زهور الياسمين تلك المعادلة التى يضعها أصحاب المزارع بحيث يقتسم صاحب المزرعة مع العامل الإنتاجية، بحيث يتحصل العامل على ثلثى الإنتاج فى حين يحصل صاحب الأرض على الثلث فقط، فلو وصل سعر الكيلو نحو 15 جنيها يحصل العامل على 10 جنيهات ويتبقى 5 جنيهات تكون من نصيب صاحب الأرض.
قطف الزهور للعامل الواحد قد لا يتجاوز نحو 4 كيلو من الزهور فى اليوم الواحد بما يعنى أن أجره بالكاد يصل إلى 40 جنيها.
عن أوقات الجمع يقول محمود: يفضل فى الصباح الباكر قبل الخامسة ويستمر إلى ما بعد العاشرة صباحا بحد أقصى، مكملا: الآن تغيرت مواعيد الجمع، فقبل التسعينيات من القرن الماضى كنا نجمع الزهور طوال الليل من العشاء وحتى الساعة السابعة صباحا الان العمال يتحكمون فى الموعد فيبدا مع الفجر، ويضيف هناك وردية اخرى تبدأ مع الساعة الثالثة عصرا وتنهى مع الظلام.
لا ينفى شهاب إصابة العامل بحساسية على الصدر لكنه ينفى انتشارها بين العاملين فى المجال، ويضيف: فى أعقاب الخروج من الأرض يصاب العامل بحالة من الخمول والتخدير، مفسرا ذلك بسبب الشبورة المائية مع قطرات الندى مع المادة العطرية النفاذة، بالإضافة إلى المبيدات وهو ما يشكل تحالفا يصيب العامل بتخدير فى جسده.
وبحسب موقع الإدارة المركزية للإرشاد الزراعى التابعة لوزارة الزراعة فإن الياسمين يحتاج إلى معدلات عالية نسبياً من الأسمدة.
«محمود» أحد أكبر جامعى زهور الياسمين والذى تجاوز السبعين من عمره يقف مدافعا عن شجرته المفضلة إحنا مبنتعبش من الياسمين التعب بيقى من الظروف الجوية المحيطة بوقت الجمع من رطوبة وشبورة لكن الشجرة استحالة تتعبنا.
من قرية صرد إلى قرية سعدون المجاورة لها كانت «سماسم» لتوها منتهية من أعمال جمع محصولها بالأرض متجهة إلى منزلها عبر «عربة يجرها حمار» لم يكن همها الأول الكشف عما أصابها جراء عملها بقطف زهور الياسمين، فتقول: من ساعة نزولنا إلى المزارع فى الفجر تبدأ تحس بدوخة شديدة وعدم قدرة على الحركة، مضيفة: أنا مصابة بحساسية على الصدر وتعب فى القولون.
مشكلة «سماسم» كباقى مزارعى وفلاحى قرى الياسمين فى احتكار أصحاب المجمعات لأسعار الياسمين، وتحكمهم فيها بالزيادة أو النقصان دون مراعاة لتكاليف الزراعة أو الجمع.
يجيب عادل محمد 42 عاما عن سؤال لما لا تعملون فى زراعة غير الياسمين فيقول بلدنا محليتهاش غيره وإحنا طلعنا أهالينا بيشتغلوا فيه، ويكمل زراعة متعبة يوميا لفترات طويلة.
ويكمل معظم أهالى القرية يعانون من الحساسية وآلام الروماتيزم بسبب الرطوبة الشديدة مع البرد، ويكمل: أنا واحد من هؤلاء الذين يعاودهم ألم فى جنبى الأيسر خلال فترات الجنى.
فى منتصف الشجرة المغمورة بماء الندى وطل الصباح يقف الطفل الأصغر البالغ من العمر نحو 4 سنوات يجمع زهور الياسمين كمساعد لوالدته هكذا تصف «أم محمد» إحدى السيدات العاملات فى هذه الزراعة حال أطفال قرى الياسمين، والذين لم يتجاوزوا نحو 12 عاما. وتضيف: لما تنزل الترعة وتطلع بهدومك مبلولة أهو ده حالنا لما نطلع من الياسمين الصبح.
وتكمل: كل البلاوى اللى عندنا من الياسمين، وآخر اليوم دخلنا أنا وزوجى وأطفالى لا يتجاوز 60 جنيها، موضحة ذلك بحسبة بسيطة «لما ننزل الأرض من قرآن الفجر ونخلص الظهر ونعاود النزول مرة أخرى من الثالثة عصرا حتى المغرب تلاقينا فى كل اليوم دا جمعنا حوالى 8 أو 9 كيلو، وبحساب سعر الكيلو الذى لا يتجاوز 12 جنيها، وبحساب الثلثين للمزارع والثلث لصاحب المزرعة تعرف إن دخلنا بيوصل حوالى 65 جنيها لأربعة أفراد بما يوازى 16 جنيها للفرد الواحد.
السيدة ذات 38 عاما والتى تعمل بالمهنة منذ نحو 12 عاما تكمل: بعد إصابة الأطفال بالحساسية والكحة اضطررت إلى الاستغناء عنهم والعمل مع زوجى، أنا أتهان لكن ولادى لأ.
وتكمل: أصحاب المجمعات هم المستفيد الأول، فتتم محاسبتهم على أساس سعر الكيلو 30 جنيها، فيقومون هم باحتسابه بـ12 جنيها لنا فى بداية الموسم ونهايته، وفى منتصف الموسم قد لا يتجاوز 15 جنيها.
من وجهة نظر «أم محمد» أن الظلم حرام لكنها تتغلب على ذلك الظلم، فتقول: نلجأ إلى إضافة المياه على زهور الياسمين لإثقال الميزان حتى نستطيع مواجهة أعباء الحياة، وخاصة بعد عملها مع زوجها فقط دون أطفالها.
«مرعى ضياء» أحد أهالى قرية كفر سعدون والموظف بالجمعية الزراعية يقول لما تطلع من الياسمين بتبقى عامل زى اللى واخد حقنة بنج شديدة المفعول ويكون هؤلاء المرضى والمصابون بالحساسية والربو الأكثر تأثرا مفسرا ذلك بأن رائحة الزهور نفاذة وقوية جدا قد تتفاعل مع الرطوبة فتؤثر على الصدر والرئة.
«رابحة فتحى» السيدة البالغة من العمر نحو 45 عاما وتعمل فى مهنة جمع الزهور منذ 20 سنة أصبحت مصابة بحساسية شديدة على الصدر والتهابات حادة، وتضيف: حينما يشتد التعب ترتعش اليدان ويقف ذراعها عاجزا عن الجمع لمدة تتجاوز الساعتين، وهو ما يؤثر على حجم إنتاجيتها فى اليوم.
الدكتور «جمال حافظ» المتخصص فى مجال النباتات العطرية بمحطة بحوث بساتين سخا بالدقهلية، يقول: زهرة الياسمين زهرة رقيقة حساسة تختلف قوة رائحتها حسب درجات الحرارة خلال النهار، إذ تقل كما حصل ارتفاع فى درجة الحرارة، تجمع أزهار الياسمين فى سلال برفق لأنها حساسة وتذبل بسرعة، كما تجمع قبل شروق الشمس فى الساعات الأولى من الصباح ما بين الرابعة فجرا وحتى التاسعة صباحا وأيضا فى فترات ما بعد العصر وحتى وقت غروب الشمس، ويكمل: فى الصباح يكون الجو مشبعا ببخار الماء ما يؤدى إلى تشبع حويصلات الرئة ببخار الماء أكثر من الأوكسجين، وهو ما يسبب الإصابة بالحساسية والربو، ولذلك يستحسن ارتداء القفازات والكمامات أثناء الجمع
ويضيف «حافظ»: زهور الياسمين قد لا تتسبب مباشرة فى الإصابة بالأورام السرطانية لكن تشبع الأرض بالأسمدة الكيماوية وبقايا المبيدات مع بقاء الأشجار فترات طويلة فى الأرض قد تصل إلى نحو عشرين عاما مع وجود البرد وبخار الماء المتصاعد من الأشجار مشبعة بالكيماويات المغرب مما يؤدى إلى الإصابة بالأورام السرطانية.
ويفسر أسباب إصابة العاملين فى جمع الياسمين بالخمول والإحساس بالتخدير، مرجعا ذلك إلى أن الجو صباحا يتكون ما يسمى بـ«الطل» حينما يتراكم على الجسد، وحينما تشرق الشمس يبدأ بالتفاعل مما يعطى إحساسا بالخمول، بالإضافة إلى سوء تغذية الفلاحين الذين يلجأون إلى الفطار بالجبنة القديمة، فيزيد ذلك من الإحساس بالخمول.
الدكتور «هانى الناظر» الرئيس السابق للمركز القومى للبحوث يرى أن التعرض للزيوت العطرية فى فترة الفجر تزيد من حدة الحساسية سواء الصدرية أو الجلدية إذا ما كان الشخص مصابا من قبل ذلك، مضيفا أن هناك الاستعداد الوراثى للأشخاص للإصابة بالحساسية إذا ما تعرضوا للمركزات العطرية، وهو ما يؤدى إلى ظهور المرض.
ويرى الناظر أن العمل فى فترة الفجر غير مضر للفلاحين وأن الأطباء دائما ما يطالبون الأفراد بالنزول صباحا لأنه الفترة الحيوية المفيدة للإنسان.
الدكتور «أحمد عبدالرحمن» أخصائى الأنف والأذن والحنجرة بكلية طب بجامعة طنطا، قال إن التعرض للروائح النفاذة يهيج الحساسية، خاصة فى ظل وجود قطرات الندى والبرودة الشديدة فى ذلك الوقت وعدم وجود أدوات للوقاية، وهو ما يتسبب فى الإصابة بالحساسية الشديدة.
د. «السيد مصطفى» استشارى أنف وأذن وحنجرة بطنطا يرى أن التعرض للروائح النفاذة صباحا قد يؤدى إلى الإصابة بضيق تنفس واختناق وخاصة فى ظل انتشار حبوب اللقاح، ما يؤدى إلى الإصابة بالحساسية والربو.
الدكتور «أسامة طه» أستاذ علاج الأورام بكلية الطب جامعة القاهرة قال: لم يثبت علميا أن الروائح الطبيعية تتسبب فى الإصابة بالسرطان لكن الإصابة بالسرطان قد تكون نتيجة عن المياه الملوثة واستخدام المبيدات.
ويكمل: الأورام المنتشرة هناك أورام القولون، لكن ليس هناك سند علمى نستطيع اتهام الياسمين به فى الضلوع بالإصابة.
بالفيديو.. "الربو" يقتل سكان 5 قرى بالغربية بسبب زراعة الياسمين.. فلاحون: مصدر رزقنا الوحيد ويتم استغلالنا من أصحاب المجمعات.. ودراسة : 5 آلاف شخص من العمال بالمزارع مصابون بالربو والأورام السرطانية
الخميس، 05 فبراير 2015 09:41 ص
شجر الياسمين
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد زيادة
أشم رائحة مؤامرة علي الزهور الجميلة....!
عدد الردود 0
بواسطة:
مصراوي
تحيه وتقدير لليد الشغاله
عدد الردود 0
بواسطة:
رائد
التعليق رقم 3
عدد الردود 0
بواسطة:
محمود
شجره البلسم المصرى
عدد الردود 0
بواسطة:
Mona
حتى أنت يا ياسمين !!
عدد الردود 0
بواسطة:
سامي نبيل
شكرا لكل من يسهل الحياة على العاملين ولرقم 4
عدد الردود 0
بواسطة:
ابو بندق
الياسمين ومركز قطور
معندناش ياسمين في الشين ????????