هذا مأتم للشعر، فيه تتشح القصيدة بالسواد، تأتى إلى أخلص أبنائها دامعة العينين مفطورة القلب، تبكى القصيدة فلا يسمعها إلا هو، يواسيها وتواسيه، يهدهدها ويهدئ من روعها، وتناجيه بأروع ما لديها من كلمات ومعان، بينما نحن نجرجر أذيال الصدمة: نتساءل فلا نجد لأسئلتنا مجيب، ننظر فى العيون فنطالع الموت فى الأحداق، هنا موت، هناك موت، فى اليمين موت وفى الشمال موت، مات الشاعر، مات الإنسان، والله ومت يا عبد الرحمن.
أنا مت
ومش منظور لى جواب
متحصن بكتوف الأصحاب
لن نرثيه لأننا لن نجد فى قواميسنا من الكلمات والمعانى ما يتوافق مع هذا المصاب الأليم، لن نتحسر عليه، فالأولى أن نتحسر علينا، فقد مات عبد الرحمن الأبنودى، أحد أهم من منحوا لحياتنا معنى ولوطننا رائحة ولنضالنا لافتة ولأوجاعنا دواء ولفرحتنا عنوانا، ولآهاتنا صدى، ولأزماتنا صوتا ولأرضنا بسمة وأملا، مات الأبنودى، الدوريش الذى جذبته فاتنة تدعى مصر فصار خادمها الأمين وصارت خليلته الوفية، يبحث عنها فى كل شيء ويراها فى كل شىء، يوغل فى تاريخا ويلملم شتات سيرتها ويخلد أفراحها وأتراحها بما تيسر من الحب.
ولا بعرف أبكى أصحابى غير فى الليل
أنا اللى واخد على القمر ومكلمه أطنان من الشهور
واللى قتلنى.. ما ظهر له دليل
مرات بعد مرات، يدخل شاعر مصر الأكبر عبد الرحمن الأبنودى فى نوبات المرض، وفى كل مرة أوقن أنه سيخرج سليما معافى، أهاتفه: ما تتصلبتش يا خال، فيضحك قائلا: لا لسة فيه شوية كده، يحدثنى عن مشاريعه المستقبلية، عن كتابه عن ابن عروس، وعن قصائده التى يراجعها يوما بعد يوم، ويقول: مش عارف بقى هالحق أعملهم ولا لأ، فأقول له: هتلحق متقلقش، أنت بقالك عشر سنين بتوزغ من الموت، مش هتغلب يعنى فى التزويغ سنتين تلاتة كمان، فيضحك وأضحك وبداخلنا شعور عميق بأننا نغالط ناموس الكون.
كل اللى عايشين من بشر من حقهم
يقفوا ويكملوا
يمشوا ويتكعبلوا
ويتوهوا أو يوصلوا
كان قويا بما فيه الكفاية ليقول للموت لا، متعكزا على الشعر ولا شىء غيره، يعرف أنه طالما يكتب الشعر فإن الموت لن يقترب منه، فقد كانت قصائده تمائم الحياة التى يتحصن بها من الموت المفاجئ والموت البطىء، لا يمل أبدا من الحديث عن الشعر برغم انشغالنا فى السياسة والثورة والتساؤل عن المصير، ولا يرى شبحا أبشع من أن يفارقه الشعر، قائلا: يجعل يومى قبل يومه.
يا صاحبى يا صديقى
يا للى طريقك طريقى
ده أنا يوم ما أعيش لنفسى
ده يوم موتى الحقيقى
لم يعش أبدا لنفسه، للشعر عاش وبالشعر اغتوى، والشعر كما قال صلاح جاهين "أمر محال" لا نبلغه حتى إذا بلغناه، لأننا كلما وصلنا إلى موقع اكتشفنا موقع، وكلما اكتشفنا موقع أبرق لنا معنى، وكلما أبرق لنا معنى اقتنصنا فيضا، وكلما اقتنقصنا فيضا أدركنا كم كانت الظلمات مطبقة على أرواحنا، وكم يختبئ فى الشعر نور على نور.
ويا أمى كل ما يوهموا بموتى
اتذكرى صوتى بذمتك مش
كان عظيم
قطعة من الروح يظفر بها صوته كلما صدح فى وجداننا، كان صوته حائط حنون، نركن إليه إذا ما ضاقت الدنيا واشتد الألم واستعرت الأزمات، هاتفته يوم 25 يناير فقال لى شدو الهمة، وهاتفته يوم 26 يناير فقال لى أوعوا ترجعوا، وهاتفته يوم 28 فقال لا تحزن ولا تهتز "خليها تخرج أوسخ ما فيها عشان لما تنضف تنضف بجد" وهاتفنى يوم أن كتب قصيدة الميدان وقرأ لى معظمها فشعرت أن الثورة الآن أصبح لها عنوانا وبيانا، وأن انتفاضة الشباب أصبحت "من لحم ودم" بعد أن كانت تائهة مغبرة، صوتك نيشان يا عبد الرحمن، علقنا على صدورنا وحفظناه فى قلوبنا وتوجنا به أعراسنا، صوتك يا عبد الرحمن نبع مصرى أصيل، نغترف منه فلا ينضب، وننهل منه فنبغى المزيد، صوتك هلال، يذكرنا بالأعياد، أرض طيبة توعدنا بالحصاد، للغريق طوق، وللحزين أمل، وللبعيد موطنا وللوطن ميلاد.
بين العتمة هنا وبين النور هناك
حبسانى ويا الغنا قضبان على شباك
زنزانتى لو أضيق أنا من ورا السجان
فى العتمة هاتشعلق حتى على الدخان
لن يموت من عاش للإنسان، من قاوم صوته قضبان السجن، من أزعج شعره الملوك والسلاطين، من شكل بشعره لحمة للوطن وسداه، من كان يعرفه الفقير والكبير والغنى والصغير، لن يموت من حفظت ملامحه أوراحنا قبل عيوننا، من يموت من كان يتخذه وطننا عكازا فينهض من نكسته على يديه وينتشى بانتصاراته رقصا على إيقاع أبياته، لن يموت من جعل العامية المصرية لغة عالمية، من تخطى الحدود مرسخا للبلاغة المصرية مكانا بين العالم، ومن صارت قصائده أيقونات خالدة فى صدور العرب من المحيط إلى الخليج، من تعلمنا منه شكل الوطن وطعمه، ومن أكلنا من يديه شهد الإبداع وتدثرنا بحنو القصيدة.
يا لولا دقة أديكى ما انطرق بابى
طول عمرى عارى البدن وأنتى جلبابى
يا سهرت الليالى يونسك صوتى
متونسة بحس مين يا مصر فى غيابى
غاب الكبير و"عدى" نهار الشعر ونهره الفياض، غاب الكبير فغاب عن مصر الونس وغاب عن الشعر دهشته المبهجة، وعزاؤنا أن صوته الصيَاح سيملأ الدنيا صخبا بعد موته مثلما ملأها وأنه شكل بتجربته عنوانا للوطن بعدما تعبنا نقرا اليفط بحثا عن العنوان وتعبنا نقرا الوشوش بحثا عن الإنسان.
ولا بعرف أبكى أصحابى غير فى الليل..
وائل السمرى يكتب: الأبنودى.. سيرة وطن.. لن نتحسر عليه فالأولى أن نتحسر علينا فقد مات أحد أهم من منحوا لحياتنا معنى ولوطننا رائحة
الخميس، 23 أبريل 2015 06:58 م
الأبنودى
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
جمال عبد الناصر
والله لو قعدت تكتب سنه ياأستاذ وائل