اللبنانى خالد بريش يكتب:رواية"بولاق أبو العلا"تفتح أبواب الأحياء الشعبية

الأحد، 24 مايو 2015 06:00 م
اللبنانى خالد بريش يكتب:رواية"بولاق أبو العلا"تفتح أبواب الأحياء الشعبية غلاف الرواية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الكاتب والروائى فتحى سليمان يقوم بتشريح سوسيولوجى للمجتمع المصرى من خلال روايته الجديدة "بولاق أبو العلا" وينجح حيث فشل الآخرون! فتأتى الرواية الصادرة عن بيت الياسمين لتأخذ مكانها كإحدى حلقات الغوص فى أعماق المجتمع المصرى، فتخرج لنا بعضًا من مكنونه وجوهره.

الكاتب أحمد أمين بدأ تلك الحلقات بكتابه قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية كعمل لغوى محض وأتبعها الشاعر صلاح جاهين برائعته الشعرية الليلة الكبيرة التى صب عليها الموسيقار الشيخ سيد مكاوى قوالب موسيقاه الشرقية الحنونة النابعة من صميم الحارة المصرية وعراقتها. ليطل علينا الكاتب فتحى سليمان بروايته هذه فيفتح أمام القراء أبواب الأحياء الشعبية على مصراعيها والتى وإن لم تتشابه من حيث جغرافيتها، إنما لا تختلف كثيرًا من حيث فسيفسائها والعادات وتركيبتها الاجتماعية.

وإذا كان موسى قد خلع حذاءه عند دخوله الوادى المقدس فإن القارئ لن يناديه أحد لكى يخلع أو يلبس؛ كونه بمجرد تخطيه للصفحة الأولى منها يصبح أسيرًا للكاتب الذى أدخله إلى عالمه وفردوسه، فى نفس الوقت الذى هو أسير لأحداث روايته الشخصية فى طفولته وعالمه وحيّه. فكل كلمة أو صورة فى الرواية تقود القارئ إلى حادثة فى حياته الخاصة أثرت فى كينونته وربما فى مجريات حياته ويختزنها فى عقله الباطن. وبالتالى هو يفتح كتابين فى آن معا، بل ثلاثة إذا ما اعتبرنا ما قام به الكاتب من تأريخ سياسى ولتحولات المجتمع وحركته فى أهم حقبة فى تاريخ مصر الحديث، بل فى العالم العربى.

والكاتب فتحى سليمان فى روايته حى بولاق أبو العلا يخرج عن التقاليد المعهودة فى الكتابة الروائية من حيث حبكة الرواية وعقدتها وعموديتها وشخصياتها، فيطرق بابًا آخر فى الكتابة وهو الكتابة السوسيولوجية، مُشَرِّحا بقلمه أحد أحياء قاهرة المعز بدقة متناهية داخلا إلى عمق التفاصيل والحيثيات دون أن يترك صغيرة أو كبيرة. وإن تعمد ترك شيء ولم يقله فلكون القارئ قد غاص فيه ويعيشه دون أن يحس، وبالتالى لا يريد كاتبنا أن يفسد عليه تسلسل أفكاره. وهذا التشريح ليس هدفا بعينه بقدر ما هو عبارة عن إماطة لثام عن خدر الحسناء لكى يراها عاشقها ليلة العرس فى أبهى حلتها وعلى حقيقتها، أى فى لحظات القراءة بعين الحقيقة.

ومع السطور الأولى يضع الكاتب نفسه بتصرف قارئه كنسر عملاق فى روايات الخيال السندبادية؛ حيث يبسط له جناحيه ليمتطى ظهره فيحمله فى جولة حب داخل أحد الأحياء الشعبية الذى هو فى حد ذاته صورة مصغرة عن القاهرة بل عن مصر إنه حى: بولاق أبو العلا المستريح على ضفة النيل ذلك النهر المنتصب على الخارطة كبرزخ.

وكما تنساب ماء النيل بهدوء ينزلق القارئ فى عوالم الرواية ويعيش أحداثها. فيخيل له فى لحظة من اللحظات بأنه يطرق بيده أبواب بيوت ذلك الحى الذى يعج بالحياة ليسلم على ساكنيها، وإحساس يراوده بأنهم أصدقاؤه ومعارفه يعيش بينهم منذ أمد بعيد! فيرى بقلبه ما اختبأ خلف الجدران فكُشف عنه غِطاؤه فبصره حينئذ حديد. فردوس بسكانه وزواريبه وممراته وشوارعه ونوافذه وشرفاته. لا غريب بينهم إلا الشيطان، ولا أسرار تختبئ، كل شيء منشور على حبال الأيام وتعاقبها. عند سطر يمسح القارئ بيده عن وجهه رطوبة رزاز ماء غسول الجمعة، وقد ألقت به إحداهن من على إحدى الشرفات نكاية بجاراتها... وعند سطر آخر يبعد رأسه ويميل به قليلا كى يمر طبق المغات الطائر كالسنونو من بيت إلى آخر احتفالا بسبوع أو طهور يركب بطله حصانا أبيض يتبختر كالخليفة الداخل من باب الفتوح أو باب النصر، وجيش من الأولاد من حوله، ومصحف مفتوح فى المقدمة اقرأ كتابك! ثم لا يلبث وهو وسط هذا العالم أن يهز برأسه طربا لمدائح تهادت لمسمعه، أو يخشع لآيات ترتل، فتنفرج أساريره لحظة لزغاريد فرح ابنة الجيران، ثم تؤلمه الذكرى فيدندن: ساكن قصادي. بوح مباشر بحكاية مضت وربما حكايات! أولاها انتهت قبل أن تبدأ على وقع لحن عندليب مصر: توبة! توبة!

يرهف السمع أكثر لسماع مسلسل إيذاعى عن عواد وأرضه، وشفيقة ومتولى وحبهما العفيف. أو لقرقعات حجارة ترتطم بصفحة مياه النيل متقافزة لتوقظ أمنا الغولة من نومها، ولتنبه صبايا الحى من شرور ريّة وأختها سكينة. أو لكى تتلهى الغولة قليلا فلا تزعج العاشقين شفيقة ومتولي... وكل ذلك على وقع سنابك خيل فى أجواء انتصارات مدوية لمعارك طاحنة يخضها أبو زيد الهلالى أو فتى مصر أدهم الشرقاوى أو فتوات بولاق... لتكون آخر المعارك بين أم سرّ الختم السمراء الطيبة واللص وانتصارها عليه بالحنكة فتنتهى به الأمور فى الكراكون.

إشارات وقصص تتداخل ببعضها فى وحدة موضوعية متماسكة كـ"بولاق أبو العلا " نفسه الذى يتحرك كل شيء فيه بتناسق وقدر فى نمطية من الحياة الهادئة التى قُدِّر لها أن تسير كعقارب الساعة. ذكريات تلف القارئ بعبقها وبخورها فتغرقه فى بحار من النوستالجيا والسُكْر فى صفحات الماضى وذكرياته وأبطال خيال طفولته : ميكى وسمير وسوبرمان والرجل الوطواط. أو الحقيقيين مثل شفيقة محمد التى استشهدت فى تظاهرات 1919 وبطل الأبطال بقامته المديدة وأسلوبه الخطابى المبهر والمفعم بالصدق جمال عبد الناصر الذى لا يغيب عن صفحة إلا ويحضر فى التى تليها عبر الحديث عن إنجازات ثورته كتأميم السويس والإصلاح الزراعى ومجانية التعليم، ومشاريعه العملاقة كالسد العالي، وخططه الخمسية والعشرية وتشريعاته الاشتراكية، وحتى الانجازات البسيطة مثل مكافحة التسول وسينما الأحياء. مع بعض النقد الهادئ وغير المباشر كفقدان مصر لبعض مكونات مجتمعها من إيطاليين ويهود ويونانيين إبان حرب 1967، واعتقال اليساريين لأطول فترة فى تاريخ مصر الحديث، والروتين فى دوائر الشرطة، والإهمال للقيم الفنية، قافزا إلى فترة أخرى وهى فترة حكم السادات فيدخلها من باب انتفاضة يناير عام 1977 وهتافات الشباب فى حينها، وتغير المفاهيم واختلاط الحابل بالنابل، واعتقال الأنبا شنودة ولباس السادات الألماني، واتفاقية كامب ديفيد التى يسميها : اتفاقية منزوعة الدسم!

وهكذا يكون الكاتب فتحى سليمان نجح؛ حيث أخفق الآخرون وقدم لقرائه ثلاث كتب فى رواية واحدة أهمها رواية شخصية لحياة كل قارئ، وثلاثتها تدور حول ما نطلق عليه: الزمن الجميل، وذلك من خلال الغوص فى تشريح تضاريس سوسيولوجيا حى بولاق أبو العلا وعادات أهله وأسرارهم بدقة متناهية، مذكرا بوصفهم لأنفسهم: النية صافية والجمال ربانى!!


موضوعات متعلقة..


الجزء الثانى من كتاب "كلام مالوش لازقة" عن دار اكتب








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة