كانت تجلس ذات يوم ومر بخاطرها شريط من الذكريات الجميلة، ومنها ذكرى لمكان تحمل له مكانة خاصة بقلبها، وما إن تذكرته فأخذت نفسا عميقا وكأنها تذكرت رائحة المكان، حيث الأشجار العالية والزرع ورائحة الزهور المتناسقة الألوان فى تناغم جميل، وأصوات الطيور التى تختبئ بين الأشجار وكأنها تراقب الموجودين بالمكان وتردد ما يقولون بصوتها الذى يشبه الألحان، ونسمة الهواء العليل الممزوجة برائحة الزهور والتى تمر على شعرها فتتطاير خصلاته وتحمر وجنتاها من الخجل. فالمكان يشبه لوحة فنية جميلة تدب فيها الحياة ولكنها من إبداع الخالق سبحانه وتعالى.
فشعرت بحنين للمكان فقررت أن تذهب إلى هناك، ولكن هالها ما رأت! لدرجة أنها أعتقدت أنها أخطأت العنوان. فالمكان أصبح أطلالا، لا يشبه بأى حال ما كان عليه بالماضى. وفجأة سمعت صوتا يردد لماذا لا تبكين؟ "إنه صوت المكان والذى دار بينها وبينه حوار"فجلست وقالت له: أبكى لماذا؟
قل لى أنت ما ألم بك؟ هل أيادى الإهمال طالتك، أم هى بصمات السنين تركتها عليك كما تفعل مع البشر؟ المكان: إنها أفعال "أشباح العشاق" يأتون إلى بدموعهم التى تتساقط، فزبلت أزهارى وجفت أوراق أشجارى، وأثقلوا كاهلى بشكواهم من أحبائهم، وبمرور الوقت ومن فرط الأحزان أصبحت كما أبدوا وكما أطلقتى على "أطلال" لذا سألتك عندما جئتى لماذا لا تبكين؟ هى: لماذا تطلق عليهم أشباح العشاق؟
المكان: لأنهم بالماضى كانوا نفوسا تملؤها الرضا، الحب، الصدق، التفاؤل والسعادة كانوا يحلقون بالسماء لا يمشون على الأرض من فرط سعادتهم، فكنت شاهدا على البدايات وبعد فترة يأتون إلى بعيون تملأها الأحزان وبقلوب مكسورة ووجوه عابسة أجساد تتحرك بلا روح واسمع منهم حكايات عن بشر ليسوا ببشر قلوبهم اصبحت كالحجر، لذلك أطلقت عليهم هذا الاسم، ولكنى أريد أن أعرف، أفهم فأنا جماد مجرد شاهد فقط لا أشعر أو أحس أو أفهم مثلكم بنى البشر. لماذا البدايات تكون عظيمة وقوية هكذا وتنتهى بالبعض بتلك القسوة وتصبح النهايات مأساوية؟؟؟
هى: معظم الذين يأتوك شاكين باكين وأطلقت عليهم أشباح العشاق هم الذين توجت قصة عشقهم بالزواج، من المفترض تكون تلك هى البداية الحقيقية لقصتهما، ولكنهم بمجرد الزواج يعتقد أحد الطرفين أنه ملك الآخر وأن الزواج هو نهاية المطاف لقصتهما، فالعلاقات الإنسانية كالزرع إذا أوليته الاهتمام والرعاية تحصد منه الثمار وكلما زاد اهتمامك به حصدت أكثر وأكثر، وإذا أهملته ذبل ومات، إن الإنسان مهما على شأنه أو طال به العمر يريد أن يشعر بقيمته لدى شريك حياته بأنه مرغوب فيه من جانب الطرف الآخر، ليس لأن بينهم عقد زواج، بل لأن كليهما أحب الآخر وأراد بكامل إرادته أن يكمل حياته معه، ولكن هناك من تضحك عليهم الدنيا فيحيدون عن طريق أحبائهم وتغريهم، وينسون حتى المودة والرحمة التى أمرنا الله تعالى بها، فيأتيك الطرف الآخر باكيا شاكيا لأنك الشاهد على البدايات كما قلت. المكان: أفهم من حديثك هذا أن الزواج مقبرة العشاق.
هى: تبتسم وتقول بدأت تفهم مثلنا نحن بنى البشر، لا أريد أن اعمم؛ فمن لا يأتوك إلى الآن باكين شاكين فهم الذين لم يتركوا الدنيا تضحك عليهم ولم يحيد طرف عن طريق شريكه، لذلك تسير بهم سفينة الحياة بحلوها ومرها لأن ما جمعهم أقوى من إغراءات الدنيا، ويزداد بمرور الوقت ما بينهم لأن كلاهم حريص على ذلك.
المكان: أو من الجائز أنهم لا يأتون إلى لأنهم لم يتزوجوا.
هى: همت بالوقوف لتنصرف، لأنها شعرت بأن الهواء بالمكان أصبح مخنوق، وقالت جئت إليك بحنين للذكريات وكنت أعلم أنه سبحانه وتعالى مقلب القلوب فالقلوب تتغير، وتبقى لنا الذكرى فوق القلوب نستعين بها لنهرب من قسوة الحياة أحيانا، ولكن اتضح لى حتى الذكريات تصبح أطلالا إذا أصابها ما يشوبها، فدوام الحال من المحال.
صورة أرشيفية