- بعد رحلة وتغريبة سنوات عاد ليكتب أهم تأريخ ظريف للسياسة والصحافة والمجتمع
- من أبرز حكم الولد الشقى: الأمم تأكل نفسها إذا ما لم تستطع أكل أعدائها
خمس سنوات وما نزال نفتقد الساخر العظيم وزعيم تنظيم "زمش" ومخترع أكثر الألفاظ والتعبيرات التى جمعت بين السخرية والمرارة، محمود السعدنى هذا الصعلوك المكافح الذى قطع الدنيا بالطول والعرض وكتب قصة طويلة لجيله وأجيال أخرى، وهى قصة ترصد أهم محطات البشر والأشخاص، حرص على أن يقدم تأريخا ساخرا لشخصيات من الظرفاء لم يجدوا من يسلط عليهم الأضواء، كما كان حريصا على أن ينسب لهؤلاء أفضالهم عليه وعلى جيله من الساخرين.
ترك محمود السعدنى تراثا من الكتب التى تجمع بين الحكى الممتد والقص الشائق، لغة بسيطة مستحيلة، وقدرة على تقديم السخرية والنقد الاجتماعى والسياسى، لم تكن السخرية مجرد بحث عن "إفيه" أو نكتة غليظة، لكنها مواجهة من الظلم والقبح والطغيان، مثله مثل عبد الله النديم وبيرم التونسى، وعبد العزيز البشرى وعبد الحميد قطامش ومحمد عفيفى، ولحق به من كتاب عصره الساخرين الكبار أحمد رجب، رحمه الله.
سلسال ممتد للساخرين
رحل السعدنى فى 4 مايو 2010 ، بعد أن عاش واحدا من سلسال ممتد للساخرين الكبار فى التاريخ العربى والإنسانى، ومن مصر يبدو فى هيئة الكاتب المصرى الجالس القرفصاء، لكنه لم يجلس وظل ماشيا يقطع الشوارع والمدن، والبلاد، هربا أو بحثا عن الحقيقة، وكانت لديه القدرة على نحت الألفاظ والتعبيرات، بشكل يمنحها حياة، خاصة وأنه عاصر السياسة والصراعات السياسية الإقليمية والمحلية، وعاصر تنظيمات سياسية يسارية، وسجن معهم، وهو الذى كان يفرق دوما بين السياسى الحقيقى، والحنجورى الذى لا يكف عن الزعيق ويبحث عن مسميات.
فى كتاب "الطريق إلى زمش" يروى تجربته مع الاعتقال أيام عبد الناصر بمزيج من السخرية والجدية، ويقول إنه وجد الكثير من الشيوعيين وكل مجموعة منهم تمثل تنظيما له اسم، يختصرونه بحروف ومنها تنظيمات "حدتو" و"ومشمش"، وتلفت السعدنى فوجد الشيوعيين والوفديين والماركسيين، كل منهم له تنظيم وحزب وهو وحيد دون حزب، فقرر إنشاء وإشهار حزب (زمش).. وكثر الحديث بين السجناء عن (زمش) واستدعى مأمور السجن السعدنى، وذهب وهو منكوش الشعر واللحية وثيابه متسخة وممزقة وسأله المأمور: يعنى إيه حزب (زمش) يا روح أمك، فرد عليه السعدنى: زمش اختصار لـ: زى ما أنت شايف، وضحك مأمور السجن وتركه يذهب.
كانت هذه هى طريقة السعدنى فى نقد التنظيمات اليسارية الصبيانية، التى كانت تنقسم على نفسها وتتحول إلى مجرد أسماء أو حناجر، لا يكفون عن المزايدة والانشقاق والتشرذم، وهى رؤية تنطبق على بعض الأحزاب والائتلافات الحالية، حيث المتعطلون يصنعون أحزابا سرعان ما تنقسم، ويبدأ أصحابها فى التشاجر على مناصب وهمية.
رحلة من الشرق للغرب
محمود السعدنى المولود فى 20 نوفمبر 1928، قطع رحلة طويلة فى عالم الصحافة، تنقل فيها بين الكثير من الصحف والمجلات، فى مصر وخارجها، ترأس تحرير مجلة صباح الخير فى الستينات، وسجن فى عهد الرئيس جمال عبد الناصر والرئيس أنور السادات واتهم بقلب نظام الحكم فى مايو 1971، وكان كاتبا على باب الله وخرج من مصر فى عهد السادات تنقل للعمل فى صحف ومجلات عربية، ترك الواحدة تلو الأخرى، من الإمارات للكويت، إلى ليبيا، ثم العراق، ولندن، وعاد إلى مصر ليكتب كتب السيرة والسخرية والتاريخ الاجتماعى بنفس يجمع بين السخرية والعمق، وتاريخ اجتماعى وثقافى لمصر وشوارعها وحكايات لا تنفد عن السياسيين والنصابين والانتهازيين، وحرص على أن يكتب ويؤرخ للفنانين والكتاب والمفكرين المجهولين أو كبار المثقفين الذين لم يتسن للقارئ العادى أن يتعرف عليهم، وفى كتابه "مسافر على الرصيف" كتب السعدنى عن زكريا الحجاوى وعبد القادر القط ومحمد عودة وعبد الحميد الديب وعبد الحميد قطامش، وفى "مسافر على الرصيف" كان يؤرخ لنفسه وذاكرته ومقهى عبد الله فى الجيزة، الذى مثل فصولا من التاريخ الثقافى والسياسى والاجتماعى ورموز مهمة. (كانت سياحتى فى قهوة عبد الله هى أهم سياحة فى العمر، وأطول رحلاتى فقد امتدت 10 سنوات كاملة).
بدايات ورحلات
ولد السعدنى فى الجيزة، عمل فى بدايات حياته الصحفية فى عدد من الجرائد والمجلات الصغيرة، وتنقل للعمل بالقطعة فى "المصرى" لسان الوفد ودار الهلال وأصدر مع الرسام الراحل طوغان مجلة هزلية أغلقت بعد أعداد قليلة.
ويروى بداياته فى صحف ومجلات بعضها كانت تصدر فى إسطبلات حمير، أو يديرها نصابون، بين اليأس والأمل، والفلس، وأيام بدون أجر، والبطالة لشهور. يرصد نقاطا مظلمة، وأخرى مضيئة، عن صحفيين مطاردين، وكتابا أكفاء، ورحلة بلغ فيها من اليأس الى درجة التفكير فى الانتحار وهو فعل يرويه بسخرية من نفسه يعمل بمرتب شهرى ستة جنيهات، حصل عليه مرة واحدة فى خمسة شهور.
يلخص السعدنى فلسفته فى السخرية والحزن (ولأنى حمقرى.. مزيج من الحمار والعبقرى) كنت أظن أن كل رجل ضاحك هلّاس.. ولأنى حمقرى كنت أرفع شعارًا حمقريًّا "أنا أضحك إذن أنا سعيد"، وبعد فترة طويلة اكتشفت أن كل رجل ضاحك رجل بائس، ومقابل كل ضحكة تقرقع على لسانه تقرقع مأساة داخل أحشائه، وتنحدر دمعة داخل قلبه.. ولكن هناك حزن هلفوت، وهناك أيضًا حزن مقدس.
السعدنى الساخر ليس الذى يضحك أو يزغزغ لكنه كاتب فى الأساس له قضيته وأفكاره والسخرية قالب يضع فيه ما يلائم الفكرة، لا يتعامل مع الكتابة الساخرة على أنها إلقاء النكت والمونولوجات، وليس مجرد كاتب ساخر لكنه فى أديب ظل يحمل أفكاره وأحلامه.
مذكرات السعدنى -الولد الشقى من أهم ما كتب فى أدب السيرة الذاتية، ويروى فيها رحلته من بداياته فى الصحافة حتى التسعينات ومنها الولد الشقى، ويروى أجزاء قصة طفولته وصباه فى الجيزة، وبداياته مع الصحافة، ثم السجن والمنفى.
وحتى قبل تويتر فقد كان لمحمود السعدنى قدرة هائلة على اختراع المقولات والتعبيرات التى تسخر من وقائع أو أشخاص، من الانتهازيين والنصابين، وكان يقدم نصائحه "لا تكن إمعة أو بردعة أو صاحب منفعة"، و"الأمم تأكل نفسها إذا ما لم تستطع أكل أعدائها" و"نحب الوطن المريض.. ولكن ليس لدينا وجهة نظر بشأن علاج هذا الوطن"، "الشرف فضلوه على الأدب والأدب فضلوه على العلم والعلم فضلوه على الجميع".
وهو الذى قال "لم يهزمنا الاستعمار الإنجليزى ولم يهزمنا العدوان الإسرائيلى ولكن هزمتنا أغذية السيد المستورد عديم الذمة قليل الأصل.. وقال أيضا "الشعب ده مفيش حد بيأثر فيه ولا يلونه.. إنجليز وفرنساويين واحتلال سنين طويلة مغيرش شكل مصر، أحنا الى هنطلع دينهم"، وقال "لا فرق بين الاستعمار والاستحمار سوى أن الأول يأتى من الخارج والثانى يأتى من الداخل".
وعن المتاجرين بالدين قال "إن دفاتر شيكات شيوخنا الأفاضل أطول من كشوف ذنوب العصاة".
وعن الأفورة قال: المصريون بيحبوا الزعيق والأفورة وضرب مثل على كدا بمسرح يوسف وهبى وقال لازم الممثلة تموت تلات مرات "موتى موتى موتى" عشان المتفرج يقتنع.
مصر من تانى
وكتاب "مصر من تانى" من أجمل ما كتب السعدنى، لأنه سياحة فى "الزمكان"، حيث يكتب التاريخ ببساطة وسخرية، ليتوقف عند أهم وأخطر مراحل التاريخ المصرى، من وجهة نظر شعبية، ويتناول السعدنى علاقة المصرى بحكامه. وهى علاقة ملتبسة ومعقدة، وكيف يمكن أن يتحول الحاكم المحبوب إلى طاغية بمجرد رحيله، وكيف يحتفظ المصريون بحكام فى المكانة العليا، ويخسفون بغيره الأرض.
ويعيد السعدنى خلال الكتاب النظر بتاريخ الشعب المصرى كله، نظرة رجل من الشارع غير متخصص. ويجرد التاريخ من السلطة ومن أبهة الحكم وأجهزة المباحث والمخابرات، ويرى التاريخ مجموعة متصلة من الأجيال وأصحاب الحاجات والمتشردين، تاريخ الشعب "على عينك يا تاجر"، من الفاطميين للمماليك للأيوبيين وحتى العصور الحديثة وعبد الناصر والسادات.
كما يرصد الكتاب محطات فى التاريخ كانت سخرية الواقع فيها (شر البلية ما يضحك)، حيث أعيان مصر ممن طالبوا المعز لدين الله الفاطمى ليأتى إلى مصر. ليأتى ويرهق الفلاحين من الخراج. والأعيان هم من طالبوا محمد على بحكم البلاد. وأحفادهم استنجدوا بالجيش الإنجليزى للقضاء على عرابى. ويرى أن الأعيان كانت مصالحهم تحركهم، حتى أنهم من دعا السادات للانفتاح ليبيعوا ويربحوا. السعدنى كان يرصد تاريخا من وجهة نظر المواطن. وليس من وجهة نظر السلطة.
رحم الله محمود السعدنى الكاتب الساخر العظيم، الذى ما تزال أقواله تصلح للتعبير عن واقع ملىء بالكثير من المتناقضات.
مؤلفات محمود السعدنى
مسافر على الرصيف، وملاعيب الولد الشقى، والسعلوكى فى بلاد الإفريكى عن رحلاته لإفريقيا، والموكوس فى بلد الفلوس عن رحلة إلى لندن، ووداعا للطواجن، ورحلات ابن عطوطة، وأمريكا يا ويكا، ومصر من تانى، ومسرحيات وقصص فى بداياته، ومنها مسرحية "عزبة بنايوتى" ورواية "قهوة كتكوت" وله كتاب فى السبعينات عن "المضحكون" تنبأ فيه بنجوم الكوميديا ومنهم عادل إمام وشقيقه صلاح السعدنى، وله أيضا حمار من الشرق، وعودة الحمار، وبالطول والعرض رحلة إلى بلاد الخواجات. توفى السعدنى فى 4 مايو 2010 عن 82، تاركا تراثا مهما من الكتابة المبهجة والساخرة المرة.
عدد الردود 0
بواسطة:
سليمان غزال
رحم الله الكاتب الكبير الساخر محمود السعدنى.