يحمل خصوصية عجيبة يصعب تحديد ملامحها وإدراك كينونتها..ولكن من المؤكد أنه صديق المبدعين، الذين أفضوا إليه حتمًا خلال ساعاته المقدسة بالعديد من الأسرار، فهو يُحسِن ضيافة لحظات الإلهام التى تحتاج لذلك الهدوء وتلك الطمانينة.... !
إنه الليل الذى يهدهد الآلام ويفتح جلسات فضفضة مع الذات، فيكون نتاجها أروع وأصدق الزخائر والكنوز الإبداعية.. أنه الليل الذى يخلق حالة من الشجن يعشق خلالها البعض الإختلاء بذلك الفضاء الرحب الملىء بالسكون، فهو يجيد الإنصات ولا يهوى الثرثرة، لذا استأثر بعشق الكثيرين، فاعتبروه (الصامت البليغ ).!
لست أروج لتلك الحالة التى يتلاحم فيها الإبداع بخيوط الليل الساكنة، وانما فقط أرصد كم يحمل سكونه نشوة خاصة تشبه المحبرة التى ينهل منها الإبداع، فهى حالة خاصة جدًا لا يمكن التأهب لها، بل تتأهب هى لك وتُدخِلك فى فلكها بلا إرادة أو استعداد مسبق. ورُحت أُتمتِم بقاع ذاتى مُتسائِلة : تُرى...لِمَ يتوهج الإلهام ليلًا وتمطر القريحة غزير مائها مع إقبال الليل ؟ ما بك أيها الليل كى يُحكِم الشِعر جدائله مع حلولك، فتتعانق خصلات الحروف من فيض قلم لاهث لا يُفرِغ غيثه إلا على السطور الليلية الظمأى؟
لِمَ تتماذج الألوان بوهجها ودفئها وكأنها تشق جوف الظلام المُلهِم وتدعوه لشهادة ميلاد لوحة تنطق بأسرار لا يفك قيدها سوى أَنس الليل ؟ أهكذا يسرى النغم المُنسدِل من أرواح هائمة ويَستقِر مُتوجًا على أوتار عود وقور أو مُلامسًا لأنامل بيانو رشيق فى ضيافة شموع حانية يملؤها الشغف الدائم لاجتياحه الخاطف ؟ كيف لها الأفكار والكلمات والتأملات العميقة أن تتسلل بصدر الليل الصامت فيتهجى صمته الرصين همهمات أحبائه الساهرين مُهديًا إياهم بعض من أسراره وبوحه ؟
وحتى على مستوى ممارساتنا اليومية العفوية.. أحسبنا لا نهوى سماع الموسيقى إلا ليلًا، ولا نهفو لمهاتفة الأصدقاء إلا ليلًا.. نهوى مشاهدة أكثر الأفلام المحببة إلى قلوبنا ليلًا ولا ننفرد بأقرب الروايات والكتب الصديقة لنا سوى مع انسدال غلائل الغروب وميلاد ذلك الساحر الشجى... أكاد أقسم أننا لا نُكاشف عراء أنفسنا إلا فى حضرة ذلك الليل المهيب ولا نمنح عيوننا شرف الإمطار إلا على وسادته الصماء ولا نهدهد قلوبنا الباكية إلا على أرجوحته الفضية فى ليلة قمرية..
أكاد أراه ذلك الليل المهيب كالفارس المُقتحِم الذى أقسم بأن يصطحبنا على بساطه السحرى، فإذا بنا نقتر معه لحظات كثيرة لا تجود بها علينا خيوط النهار الوليدة ولا تشابه تلك المتلاشية فى رحم الليل المهاجر، فقد أحاط الله الليل بهالة من الهيبة والشجن، فبدا وكأنه مهبط طائرة عملاقة حلقت كثيرا فى السماء وأرهقتها الرحلة فأرادت إفراغ راكبيها وتبريد محركاتها وإراحة أجنحتها...إنه الصديق الصدوق.. كاتم الأسرار.. خزانة الأوجاع ومَهد الإستكانة..على ضى قمره الرقراق ننتظر أعذب نهار.. ومع نسماته الباردة النقية نتلمس ولادة فجر مقدس..ومع حفيف أوراق شجيراته العاشقة نهفو للحظة إجابة تمتلىء بالرحابة والسعة.
شكرًا أيها "الليل"...فقد أهديتينا جولة تأملية بأركانك المتفردة، فطالعنا نجومك عبر مرآتك المعظمة والتففنا حول قمرك الساهر الذى يرعى كل من حَل فى ضيافته الرائعة على شرف ذلك الملكوت الليلى الرحب الذى يرث كل هذه الحظوظ ويستأئر بمزايا خاصة تجعله آسر وهادر وساحر...!!
الليل
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
رشا
راقيه
مقاله رائعه وراقيه حقا
عدد الردود 0
بواسطة:
شيرين ماهر
الرقى والروعة دائماً من جانب المتلقى العميق مرهف الحس
عدد الردود 0
بواسطة:
كوثر
مقال رائع
عدد الردود 0
بواسطة:
شيرين ماهر
عندما تلامس الكلمات روح القارىء إذً فقد تفوق عليها
عدد الردود 0
بواسطة:
ربيع
حرام
عدد الردود 0
بواسطة:
شيرين ماهر
تعليق مختصر لكنه أبلغ واروع ما تلقيت