يثبت كريم عبد السلام فى هذا الديوان أن القضايا الكبرى لم تغب، وأنه لم ينسحق أمام إغراء التفاصيل الصغيرة. لقد تجاوز فى هذا الديوان تلك الثنائية الضدية التى استلبت نقاد قصيدة النثر، إما القضايا الكلية وإما التفاصيل اليومية، لأن تلك الثنائية أسهمت دون أن يدرى نقاد الأدب فى تعليب النقد فى مقولات ثابتة، رغم أن كل نص يطرح مقولاته الخاصة، ويطرح مشروعه الجمالى الخاص، وهذا يمثل عائقا كبيرا أمام التلقي، فلا نستطيع أن نضع للنقد مانشيتات عريضة نغلبها على كل النصوص.
كريم عبد السلام أحد شعراء قصيدة النثر الذين تمكنوا من أن يضعوا أيديهم على وعى لحظتهم الجمالية، وأن يفتحوا طرائق تعبيرية تخصّهم.صنع كريم عبد السلام وعيا جماليا عميقا ورؤية للعالم مميزة فى ديوانه "أكان لازما يا سوزى أن تعتلى صهوة أبى الهول" الذى صدر عن الهيئة العامة للكتاب.
كسر كريم فى هذا الديوان المقولات النقدية التى كانت تُصدّر دائما: بأن قصيدة النثر لا تهتم إلا بما هو يومى وعادى وشخصي، وأنها تشتغل على تفاصيل الذات وعلاقتها بالعالم، وأنها لا تلتزم بالقضايا الوطنية والقومية الكبرى وأن ذلك لا يخرج عن السياق العام الذى تولد عن الحركة الوطنية، وبالتغيرات التى تلت ذلك سواء على المستوى الاجتماعي، أو السياسي، أو الفكري.
يتجرأ الشاعر على الاهتمام بالواقع ، بما هو مجتمعي ،بتلك القضايا الكبرى والكلية التى تنكر لها الكثير من كتاب قصيدة النثر الذين رأوا الشعر هو الذات والجسد ، والانغماس فيهما دون أن يروا ما هو خارج عنهما.
يمتلك كريم عبد السلام خصوصية عميقة فى رؤيته للعالم، ليس على مستوى موضوعه الشديد الالتصاق بالواقع الحياتى المعيش والعميق فى بعده الثقافى والفكرى والسياسى والاجتماعي، ولكن أيضا على مستوى لغته وأسلوبه وتقنيته وتشكيله الفني، وهو الأمر الذى حقق له صوتا خاصا داخل المشهد الشعرى خاصة.
جرت مياه كثيرة فى النهر منذ قدم لنا كريم عبد السلام ديوانه الأول "استئناس الفراغ" عام 1993، ومن بعدها توالت دواوينه التسعة قبل أن يصدر هذا الديوان. من تابع مشوار عبد السلام الشعرى يتكشف له أن رؤيته الجمالية والثقافية للشعر لم تختلف كثيرا، ففى الوقت الذى انغمس غيره من مجايليه من الشباب فى كتابة الذات والجسد والعادى واليومى كتب هو تموضع هذه الذات فى وجودها الجمعي، فالفتى الذى صاحب الفتاة فى المقابر فى ديوانه: "فتاة وصبى فى المدافن" ـ عام 1999 يطرح قضية الذات، لكنها الذات الجمعية، بل يمكن أن نقول إنها الذات الأممية التى تمثل عموم الإنسان.
يمثّـل ديوان "أكان لازما يا سوزى أن تعتلى صهوة أبى الهول" نقلة نوعية فى مجمل كتاباته، ربما لا يشاركه فى تلك النقلة سوى ديوان : "قنابل مسيلة للدموع" من حيث اهتمامه بالشأن السياسى واشتغاله على ما هو مجتمعى.
يثبت كريم عبد السلام فى هذا الديوان أن القضايا الكبرى لم تغب، وأنه لم ينسحق أمام إغراء التفاصيل الصغيرة. لقد تجاوز فى هذا الديوان تلك الثنائية الضدية التى استلبت نقاد قصيدة النثر، إما القضايا الكلية وإما التفاصيل اليومية، لأن تلك الثنائية أسهمت دون أن يدرى نقاد الأدب فى تعليب النقد فى مقولات ثابتة، رغم أن كل نص يطرح مقولاته الخاصة، ويطرح مشروعه الجمالى الخاص، وهذا يمثل عائقا كبيرا أمام التلقي، فلا نستطيع أن نضع للنقد مانشيتات عريضة نغلبها على كل النصوص.
عتبات النص فى هذا الديوان تغرى بقراءة نقدية مميزة من كثرتها، منذ التناص التركيبى اللغوى مع عنوان يوسف إدريس "أكان لا بد يا لى لى أن تضيئى النور" مرورا بالتناص القرآنى مع سورة يس "يا حسرة على العباد" إلى التصدير الذى صدر به الديوان من أن قصائد هذا الديوان كتبت فى العامين 2011، 2012 وما لهذين العامين من دلالات وخلفيات معرفية فى ذهن المتلقي. إلا أن هذه القراءة السيميائية ليست مغوية بما فيه الكفاية بالنسبة لي ، بل سأقوم بقراءة الديوان قراءة ثقافية، لأكشف عن رؤية العالم بالنسبة للشاعر، وكيف يرى تلك القضايا الكبرى التى أشرت لها فى المقدمة.
سوف أبدأ الديوان من نهايته، لأن المقتبس الذى وضعه الشاعر فى ظهر الغلاف الخلفى إنما هو مقولة الديوان الرئيسية: " لو أن لى قدرة السّحرة على العودة بالزمن للوراء لاحتفظت بك طفلة صعيدية رقيقة فى صالات الباليه تفرغ طاقتها فى الدوران على أطراف أصابعها، فيما يهتز ثدياها الصغيران على إيقاع الموسيقي.لو أن لى قدرة السّحرة على العودة بالزمن يا سوزى لمنعتك برفقة من اعتلاء صهوة أبى الهول..عفوا سيدتى هذا الأسد أكبر من انفراجة ساقيك لا تأمنى صبره أو صمته الطويل..فى لحظة يمكن أن يلتفت إليك برأسه الضخمة ويضعك بين فكيه".
هذه القصيدة تحمل مقولة الديوان، فسوزى التى يخاطبها الشاعر، والتى كان يتمنى أن يعيد الزمن للوراء حتى يبقيها فى صعيدها مجرد فتاة تمارس الحياة وتفرغ طاقتها ولا تعتلى صهوة أبى الهول، إن سوزى هى سوزان مبارك التى اعتلت صهوة مصر، وأفسدت الحياة فيها، وأودت بذلك البلد إلى لحظته الراهنة، لحظة كتابة الديوان.
إنه يريد أن يعود بالزمان ليحمى مصر مما حدث، فصهوة أبى الهول (مصر) أكبر من فخذيها اللذين حاولا اعتلاء تلك الصهوة الشامخة، والشعب المصري (أبو الهول) يصمت كثيرا، يصمت طويلا، لكنه فى لحظة قد يستدير برأسه ليأكل من يعتليه، وقد حدثت تلك الالتفاتة في 25 يناير 2011.
ومن آخر الديوان إلى أوله، والقصيدة الأولي"صفر" يقيم كريم عبد السلام من الذات معادلا للشعب الذى تمرد من أن تعتليه سوزي، فى القصيدة تعود الذات إلى قهرها البدائي، تحاول أن تكشفه، تعريه، تتمرد عليه، ترفض القيود التى تشدها، إنها رغبة حميمة فى الخلاص، وقد تم الخلاص فى ميدان التحرير:"لم أكن ميتا حين فتحوا المزاد على بدني
كنت غائبا فى نوم ثقيل،
ذهب بى إلى جزيرة السندباد،
حيث الغيلان يقدمون للبحارة طعاما يسلبهم عقولهم ويملؤهم بالشحم،
ثم يقصفون رقابهم ويشوونهم على السفود،
كنت مغشيا عليّ
من الألم والحزن والسأم والشقاء والكآبة
لس ترفا أن تهرب الروح قليلا
ليس ترفا يستوجب العقاب أن أدير ظهرى للعالم".
بعد تلك اللحظة الصفرية التى أقام فيها الشاعر من الذات معادلا للوطن، يتحدث الآن عن "المدينة" فى القصيدة التالية،يرصد موت المدينة من خلال عيون طفل برئ، وكأنه يدفع القارئ دفعا إلى لحظة الثورة والتمرد، فكل شئ يموت، و: "المدينة تموت
قالها الطفل لأمه فى براءة
وغمغمت بها الفتاة لحبيبها وسط دموعها
ونقلها الأب لابنه فيما يشبه الوصية
دخان أسود يتصاعد إلى السماء
الصحراء تتحرك بجبالها وكثبانها وتحاصر البيوت".
لكن الشاعر لا يقبل بموت المدينة، فرغم الموات الذى أصاب كل شئ إلا أنه يذهب للحظة المشتهاة ، لحظة الانحياز للحلم، الانحياز للأمل وللمستقبل، فالطفل الذى رأى المدينة تموت ببساطة يأتى ببقية الأطفال ليبحثوا عن الحلم والخلاص ، ويواجهوا الموت، ويطرحوا الأسئلة، وطرح الأسئلة طريق الخلاص، لأنه يشير إلى العقل النقدى الذى نحن بحاجة إليه لمراجعة المسلمات التى أدت إلى تلك اللحظة المنغلقة، والتى لم تنفرج إلا بخروج الجماهير :
"هذه لحظتنا
خسارتنا الدائمة انقلبت نصرا
عوزنا تحول غنيً
خلاصنا الذى نرجوه تحقق بقوة
ودفعنا للمقدمة
وحدهم الأطفال تساءلوا :
كيف تموت المدينة قبل أن تعيش
وخرجوا يبحثون عن الموت ليطرحوا عليه الأسئلة".
ينهى القصيدة نهاية يوتوبية حالمة:، فالصباح/ الثورة قد أتي " فى الصباح
كانت الشمس فى موعدها
والأشجار تهتز مع النسيم كأنها تحتفل
ورائحة الخصوبة تغمر الأرض".
فى الديوان قصيدة يخاطب فيها الدكتاتور، يسائله، يعرى له قبح ما فعله فينا، يكشف له عورات وسوءات حكمه،عنوان القصيدة نفسها سؤال ، وإجابته هى جُلّ ما حدث فى مصر قبيل ثورة 25 يناير، القصيدة بعنوان:" أين أعمارنا أيها الدكتاتور، أين نذهب بالكراهية والأحلام الجريحة؟". يبدأ القصيدة ساخرا من الدكتاتور، يثم ينهيها بمشهد الثورة، وبين السخرية والتثوير تنهض مئات التفاصيل التى تشهد على آثام الدكتاتور، كل دكتاتور:
"ليتمجد اسمكَ
وليتواصل جيلا بعد جيل
تزول كل الوجوه ويبقى سمتك علامة على الوجود
فى البدء كنت فردا ..زعيما..شبحا
وخرابا خاليا كان العالم
وعندما تمدد ظلك الأسود ولاح وجهك الأزلي
ظهرت الأرض والدماء
والناس والأسلحة
والحيوانات والأنياب
والسماء والطائرات القاذفة..
أسنان وأنياب وقواطع وأظفار ونهش وتمزيق وصيحات انتصار عالية فى مواجهة الشمس
هنا فى الساحة على ضفة النيل
أيها الدكتاتور المبجل".
موضوعات متعلقة..
لوحة "جوجان" الأغلى فى العالم بـ"300مليون دولار" معروضة فى "مدريد"