كنيسة الأنبا موسى الأسود بأبو هلال
فى منطقة أبو هلال الشعبية بالمنيا، ترقد كنيسة القديس موسى الأسود على أنقاضها، كان هناك كنيسة كبيرة هنا يومًا، ولم يعد منها إلا بعض رماد، الكنيسة تطل على الشارع رئيسى وتبعد عن مديرية أمن المنيا، عشر دقائق سيرًا على الأقدام، لكن قربها من الأمن لم يشفع فى إنقاذها من رصاص التشدد أو نار الحريق.
الكنيسة افتتحت بعد أعمال تجديدات ضخمة فى يوليو عام 2011، ثم جاءت أحداث الـ14 من أغسطس عام 2013 لتعيدها مرة أخرى إلى نقطة الصفر. يروى «عم عطية» حارس الكنيسة، تفاصيل صباح الرعب الذى بدأ فور توارد الأنباء عن فض اعتصامى رابعة العدوية والنهضة، إلى مسجد قريب من الكنيسة عُرف بأنه مقر لتجمع قوى الجماعات المتشددة، فتنبه الأب الكاهن للكنيسة وحذر الحارس من خطورة الوضع وطالبه بالحيطة والحذر وتجنب أى استفزازات محتملة. جلس «عم عطية» فى كنيسته مترقبًا، حتى سمع أصواتا وهتافات قادمة فى اتجاه الكنيسة، تحصن خلف البابا، وأبلغ الشرطة لأول مرة أن مئات المتشددين يحاولون اقتحام باب الكنيسة الحديدى الصلب، لم تفلح استغاثته.
فوجئ بعدها بساعة، بسيارة ربع نقل، تندفع بقوة فى اتجاه الباب حتى أسقطته على الأرض ودخلت تحمل على ظهرها مئات الرجال يحملون فى أياديهم جميع أنواع الأسلحة والمواد المشتعلة والمولوتوف، صعدوا إلى الدور الأول بالكنيسة وحملوا ما استطاعوا حمله من مسروقات.
يقول «عم عطية»، كانت هناك غرفة نجمع بها التبرعات العينية للأيتام المقبلات على الزواج تمتلئ بالملابس والأجهزة الكهربائية، حملوا كل ما فيها، أما الغرفة المجاورة لها فهى غرفة نادى الكنيسة التى كانت تضم أجهزة كمبيوتر يعمل عليها شباب الكنيسة والخدام والشمامسة، تم نهب محتوياتها بالكامل، بالإضافة إلى خلع مرايا الحمامات وسرقة شاشات العرض التى تستخدم فى عرض طقوس الصلاة للحاضرين، ثم أشعلوا النار فى الكنيسة، فتحولت إلى رماد بفعل المواد المشتعلة التى ألقوها على الأرض.
ويواصل: «أثناء الحريق، عملت على تهريب الأب الكاهن من الباب الخلفى للكنيسة حتى لا يقتله المتشددون إذا ما رأوه بملابس الكهنوت السوداء، وغادر مسرعًا، وبقيت مختبئًا أرقب ما يحدث من بعيد، كانت ليلة حرب كاملة، يتمتم «عم عطية» بملامح خائفة».
داخل الكنيسة، تشاهد الرماد على الجانبين يأخذ مكان القديسين الذين يحبوا أن تعلق صورهم على الحائط، وأمام المذبح مباشرة يظهر وجه المسيح وهو ما يسمى بحضن الأب، وكأنه كان عصيًا على الحريق، ينظر بعينيه الواسعتين يتفقد رماد كنيسته وبيته. على الحوائط السوداء بفعل الحريق، كتب شباب الكنيسة أسماءهم، تقرأ بيشوى، ومارينا وجرجس، كعادة المصريين فى كتابة التذكارات على الحوائط إلا أن حائط الكنيسة كان محاطًا بعبارة الإنجيل الشهيرة «إن كان الله معنا فمن علينا».
يحكى عم عطية، ذكرى قداس الحريق، الذى أصر الأنبا مكاريوس على صلاته فوق أنقاض الكنيسة ليشهد الرب عليها، فيقول «صلينا هنا وعلى هذا الوضع صباح يوم 19 أغسطس، كنا فى غاية الرعب وطمأننا سيدنا بالصلاة خلفه».
الدور الأرضى للكنيسة، مغطى بحوائط أسمنتية، وضعت عليه صور وأيقونات، قال عم عطية أن كهنة الكنيسة رفضوا غلقها بالكامل بعدما احترقت، واتفقوا على استخدام الدور الأرضى للصلاة فيها.
رغم كل ما مر بها من جراح، يعلق شباب الكنيسة على الحائط أوراق كرتونية ملونة تحمل عبارات «محبة وفرح ولطف»، بينما يقف القديس الأنبا موسى الأسود الملقب بالقديس القوى، على حائط كنيسته فى رباطة جأش يصر على مواصلة الصلاة فيها ومباركة شعبها، وفى حائط كبير تظهر آية «إذا فقدت كل شىء بقيت ثقتك»، وكأن الكنيسة تطمأن نفسها بالثقة بعدما ذابت حوائطها من الكراهية.
عم عطية يؤكد، أن الشهور التى تلت الأحداث، كانت لا تقل رعبًا عنها ولكن الآباء الكهنة كانوا حريصين على استمرار الصلاة فى بيت الرب، مضيفا «كنا نصلى صلوات القداس مبكرًا من السادسة صباحًا وحتى الثامنة قبل أن تستيقظ المدينة وتبدأ مظاهرات الإخوان وتنتشر أصوات الرعب، مشيرًا إلى أن الأحداث وقعت يوم أربعاء، فامتلأت الكنيسة بالمصلين يوم الأحد، متابعا «نحن نتقرب إلى الله فى الشدة».
أن تسير فى شارع الآلام
شارع الأمير تادرس أو شارع الآلام كما يلقبه أقباط المنيا، فيشبهون آلامهم بعذابات المسيح، هو الشارع الذى شهد النصيب الأكبر من أعمال الحرق والنهب والسلب، فتم فيه حرق مدرستين تحملان اسم الأقباط، بالإضافة إلى كنيسة الأمير تادرس الشاطبى الأثرية، وصيدلية الأمير تادرس، وملجأ أيتام تابع للكنيسة ومدرسة كاثوليكية وممتلكات شخصية أخرى لمواطنين أقباط.
الجغرافيا جعلت من شارع الأمير تادرس، شارعًا للآلام فالشارع يتقاطع مع الحديقة التى أتخذها الإخوان مقرًا لاعتصامهم بالمنيا، بالإضافة إلى قربها من مسجد الرحمن الذى انطلقت منه حمم الجماعات لتغزو الكنائس وتهاجم ممتلكات الأقباط.
المفارقة فى الاسم أن الأمير تادرس الشطبى، الذى سمى شارع الآلام على اسمه، هو أحد شهداء الحرية الدينية فى تاريخ المسيحية، وأحد الذين حاربوا المتشددين الوثنيين من أجل التمسك بعقيدتهم.
على يسار الشارع، مدرسة الأقباط الإعدادية، يقول الدكتور شريف ذكرى عضو اللجنة المشرفة على ترميم المنشآت، إن المدرسة تعرضت لحريق طفيف لحوائطها الخارجية وتمت سرقة خزينتها، وأجهزة كمبيوتر منها، عملت وزارة التربية والتعليم على ترميمها فورًا حتى تلحق بالعام الدراسى الذى تلا الأحداث، وهو نفس الأمر الذى تكرر مع مدرسة الأقباط الابتدائية أيضًا، رغم أنها مدارس حكومية، إلا أن اسم الأقباط عليا كان كفيلًا بإحراقها.
وأضاف: «كانت المجموعات التى عملت على إحراق الكنائس تعمل بشكل منظم، ووفق سيناريو محكم، كل مجموعة من الإرهابيين كانت تتجه إلى هدف محدد تعمل على إحراقه وتدميره بشكل منظم وسريع، وبآلية محددة، فبعض المنشآت تم اقتحامها من خلال رفع الأبواب وسرقتها عبر عتبات، منشآت أخرى تم اقتحامها بالسيارات وتحطيم الأبواب»، مضيفًا: «كل شىء كان مدروسا بدقة بحيث تتم أكبر عدد من العمليات فى نفس الوقت».
على بعد ناصيتين من المدرسة، صيدليتين تحملان اسم الأمير تادرس، واسم صيدلانية قبطية، جرى نهبهما وحرقهما أيضًا.
النار تأكل ملجأ الأيتام الأقباط
بعد المدرسة هناك جمعية جند المسيح القبطية، وهى الجمعية التى تشرف على دار أيتام تبرع بها أمين باشا إبراهيم أحد باشاوات الأقباط قديمًا وظل الملجأ يحمل اسمه حتى الآن.
تدير جمعية جنود المسيح الملجأ الذى يضم 40 من الأيتام الذكور الأطفال، وللملجأ عمارتان متجاورتان، الأولى مبنى أثرى كان الأطفال يسكنون فيه ليلة الأحداث الدامية، أما المبنى الثانى فهو عمارة حديثة، تضم مقر الجمعية وإدارتها وباقى أنشطتها. يحكى عم جرجس قصة الهجوم على الملجأ فيقول، إن مسيرات الإخوان تحركت تجاههم بعد فض اعتصامى رابعة والنهضة، وحاول المتشددون اقتحام الباب الرئيسى للملجأ، ثم وضعوا عتبة على بابه ودخلوه بعنف، كان عم جرجس وقتها قد استمع لتعليمات إدارة الجمعية التى أمرت بإعادة الأيتام إلى أقاربهم بعدما شاهد على شاشات التلفزيون واقعة إلقاء شاب لآخر من فوق عمارة الإسكندرية، وتم تسليم الأطفال لأقاربهم قبل اقتحام المبنى بساعات.
بعد الاقتحام، أشعل الإرهابيون النار فى المبنى الأول وهو قديم وذى طابع أثرى، فانهارت حوائطه تمامًا، وتحصن عم جرجس بالمبنى المجاور الذى يطل على مئذنة مسجد الرحمن مقر الجماعات الإسلامية، سلبوا ونهبوا كل محتويات الجمعية من أجهزة كمبيوتر وتكيفات وخزائن تضم متعلقات الأطفال وأوراقهم، ثم صعدوا سطح الجمعية التى اختبأ عم جرجس فى إحدى غرفها الضيقة وأطلقوا الرصاص على ممتلكات مجاورة تخص الأقباط.
يقول عم جرجس: شاء الله يا عذراء، أنقذتنى بركتها بمعجزة من أيديهم، أغلقت هاتفى خوفًا من أن يتصل أحد فيسمعون صوتى، واختبأت فى هذه الغرفة الضيقة خلف عمودها فرأيت الموت بعينى بعد أن صعدوا إلى بالسلاح، حتى سرقوا كل شىء ورحلوا.
كنيسة الأمير تادرس الشطبى
وإلى كنيسة الأمير تادرس الشطبى، إحدى أكبر وأقدم الكنائس فى المنيا، تأسست عام 1907 بيد سعيد باشا عبدالمسيح أحد باشاوات الأقباط آنذاك، وكان لها حظوة كبيرة لدى الأقباط، حيث حظت بزيارات للبابا شنودة، والبابا كيرلس السادس وكبار رجال الكنيسة.
يقول معلم الكنيسة، إنه فى يوم الأربعاء الأسود، جاءت مجموعة كبيرة من المتشددين، واقتلعوا باب الكنيسة ووضعوه على سيارة وسرقوه، ثم جاء توك توك محمل بالمواد المشتعلة كإمداد للرجال الذين دخلوا إلى القاعة الكبرى ليحملوا ما استطاعوا حمله مثل أجهزة الكمبيوتر والشاشات التلفزيونية وغيرها، ثم أحرقوا الأناجيل، ودمروا مذبح الكنيسة وألقوا الأيقونات والصور على الأرض، وبدأوا فى إشعال النيران بها، وظلت النيران تأكلها ست ساعات كاملة حتى سقط الدور الأول منها على الأرض.
يشير معلم الكنيسة إلى أن الصلاة لم تتوقف فيها لحظة واحدة، فأثناء أعمال الترميمات أمر الآباء الكهنة بالصلاة فى خيمة مجاورة بفناء الكنيسة حتى لا ينقطع شعب الكنيسة عن زيارتها، ولا تنقطع البركة عن المكان.
داخل الكنيسة، ترى العمال يحملون السقالات ومهندسين يرفعون المقاسات، وتجرى عملية تركيب أخشاب الكنيسة على الحائط وفقًا للتصميمات المعمارية للفن القبطى المتعارف عليه، على أن تتم عمليات رسم القباب خلال أيام، لأنها تستغرق وقتًا طويلًا وتتطلب فنانين متخصصين فى الفن القبطى. فى الدور الأرضى من الكنيسة، عادت الصلاة حتى يتم الانتهاء من الأعمال والإنشاءات، وضعت الصور والأيقونات على الحائط وعاد الشباب ليكتبوا على حوائطها «أبواب الجحيم لن تقوى عليها».
فى ركن منزوٍ من الكنيسة، ترى المبنى الوحيد الناجى من الحريق، وهو قبر سعيد باشا عبدالمسيح، الذى بنى الكنيسة وترك جسده داخلها، فلم تأكله نار الحريق.
الأنبا مكاريوس: 185 مليون جنيه تكلفة إعادة بناء الكنائس المحترقة
الأنبا مكاريوس أسقف عام المنيا وأبوقرقاص، وتوابعها، يؤكد لـ«اليوم السابع»، أن حجم الإنشاءات فى الكنائس المحترقة يقدر بمبلغ 185 مليون جنيه، تعمل دار الهيئة الهندسية على تنفيذها.
وأوضح الأسقف العام، أن الكنيسة تدفع للمقاول الذى يتولى الإنشاء، وتسدد لها القوات المسلحة على دفعات، ومن المنتظر أن تنتهى المرحلة الأولى من الإنشاءات قبيل نهاية العام الحالى على أن تبدأ بعدها المرحلة الثانية مباشرة، وهى المرحلة التى تضم كنيسة الأنبا موسى الأسود، التى ما زالت على حالها حتى الآن.