نقلا عن العدد اليومى...
كانت الساعة التاسعة صباح يوم الثلاثاء «24 يوليو 1956»، حين وصل الرئيس جمال عبدالناصر إلى معمل تكرير البترول بـ«مسطرد» لافتتاح خط أنابيب البترول الجديد «السويس - القاهرة» ومعمل التكرير، وكان برفقته بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة والوزراء.
قبل أن يبدأ «عبدالناصر» جولته لمشاهدة المعمل ونهاية الخط، التفت إلى محمود يونس رئيس الهيئة العامة للبترول قائلاً: «اتكلم واشرح ولا تتوقف عن الشرح سواء كنت أسمع لك أو لا»، فيما يعنى أن آخر شىء يفكر فيه الرئيس هو ما يشرحه يونس له وأدرك «يونس» شرود الرئيس وانصراف ذهنه عن كل ما يسمع، وحرصا منه على سلامته قال له: «أرجو أن لا تلمس أى ماسورة فى المعمل لأنها ساخنة جداً لأن الوقت لم يسمح بتغليفها».
وقائع هذا اليوم الذى كان مفتتحاً لقصة طويلة لمصر مع التحدى والكبرياء والإرادة الوطنية، تقرأها فى كتاب «قناة السويس والأيام التى هزت الدنيا» وهو مذكرات المهندس «عبدالحميد أبوبكر» سكرتير الهيئة العامة للبترول وقتئذ، والذى حضر واقعة المؤتمر الصحفى، وكان القائد الثانى لفريق التأميم ويقول فى مذكراته إنه أثناء الافتتاح ارتجل الرئيس جمال عبدالناصر كلمة، كنا نتوقع أنها سوف تتناول البترول الوطنى، لكنها انصبت على سحب العرض الأمريكى لتمويل السد العالى، والذى أعلنته أمريكا قبل أيام وصاحبها حملة تشكيك واسعة فى سلامة اقتصادنا الوطنى شملت القول بأن مصر لن تستطيع تسديد ديونها كما أنها على خلاف مع دول نهر النيل حول المشروع.
قال الرئيس فى المؤتمر: «قامت فى واشنطن ضجة تعلن وقد تجردت من الحياء، بل تجردت من أى مبدأ من المبادئ التى تقوم على أساسها علاقات الدول، تعلن كذبا وخداعاً وتضليلاً أن الاقتصاد المصرى يدعو إلى الشك، إننى أنظر وأقول موتوا بغيظكم، والرد الذى سأقوله لهم على هذا الكلام اليوم، هو غير الرد الذى سأقوله لهم يوم الخميس القادم إن شاء الله».
وبعد حفل الافتتاح، دعا عبدالناصر المهندس محمود يونس إلى مكتبه بمقر مجلس الوزراء الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً، فاصطحب «أبوبكر» إلى اللقاء وكان ظنهما أنه متعلق بالبترول وقضاياه، وذلك على خلفية نشاطهما الوظيفى، ولهذا جهز يونس ملفاً حول قضايا البترول.
بمجرد أن جلس «يونس» أمام جمال عبدالناصر بدأ فى عرض تقرير يحمله عن مشكلات البترول، وظل الرئيس يستمع إليه بلا تعليق، والحقيقة أنه كان مشغولاً بشىء آخر تماماً لا يعلمه محمود يونس، وفجأة سأله عبدالناصر: «إيه معلوماتك عن قناة السويس يا محمود؟».
أجاب محمود يونس: معلوماتى قليلة.
قالها يونس دون أن ينتبه إلى أهمية السؤال وضرورته فى هذا التوقيت، وبعد لحظات قال له عبدالناصر: «قررنا تأميم القناة».
لم يدر يونس بنفسه فقام على الفور وتلقائياً من مقعده معانقاً عبدالناصر، ثم عاد إلى مكانه ليكمل عبدالناصر: «أنا أكلفك بهذه المهمة يا محمود».
وللحظات لم ينطق محمود بكلمة واحدة
كان المهندس «أبوبكر» موجوداً خارج الاجتماع فاستدعاه عبدالناصر ليسأله عن معلوماته عن القناة، فأجاب: «معلوماتى قليلة»، إجابة كانت كما قال صديقه ورئيسه فى البترول «يونس»، ثم أبلغه أيضاً بقرار التأميم، وقبل أن يغادر الاثنان المكتب، أعطاهما الرئيس كتبا عن القناة وهى الكتب التى ألفها الدكتور مصطفى الحفناوى، بالإضافة إلى ملف بعنوان: «مذكرة عن الشركة العالمية لقناة السويس» مقدمة من إدارة التعبئة، وقال عبدالناصر وهو يودعهما: «القرار سيكون فى خطابى بعد غد الخميس، وبدء تنفيذ العملية سيكون عندما أذكر كلمة «ديليسبس».
وانصرفا الاثنان للتجهيز طوال 55 ساعة لواحد من أهم أحداث القرن العشرين، وعكفا على وضع خطة التأميم واختيار الفريق الذى سينفذ المهمة الكبيرة، ولما أتما ذلك كله اجتمعا بعبدالناصر الذى بارك الخطة والاختيارات.
وفى يوم «26 يوليو 1956» احتشد الآلاف فى ميدان المنشية بمدينة الإسكندرية لسماع خطاب جمال عبدالناصر، وترقب العالم كله ماذا يعنى بكلمته «موتوا بغيظكم» التى وجهها قبل يومين إلى أمريكا رداً على قرارها بسحب تمويلها لـ«السد العالى».
كانت وقائع اليوم كثيرة قبل بدء «عبدالناصر» لخطابه، يرويها عبدالحميد أبوبكر بالتفصيل، فالمجموعة التى ستتولى عملية التأميم بقيادة «محمود يونس» أعدت خطتها بسرية كاملة وحرفية هائلة، وشملت أماكن التنفيذ كل مواقع القناة فى بورسعيد والسويس والإسماعيلية ومكتبها الإدارى فى «جاردن سيتى».
قبل الخطاب بساعتين استدعى عبدالناصر مجلس الوزراء وأعضاء مجلس قيادة ثورة 23 يوليو للاجتماع، وأبلغهم بالقرار فانقسم المجتمعون حوله، وانتهى الاجتماع بقول عبدالناصر لهم: «أريد أن أكون منصفاً لكم جميعاً، فأسجل هنا أننى أتحمل مسؤولية قرار التأميم، وللشعب المصرى والتاريخ أن يحاسبنى عليه، فلست أريد لأحد منكم أن يتحمل مسؤولية قرار خطير لم يعرف به إلا قبل إعلانه بوقت قصير».
كانت الساعة الثامنة والنصف مساء وقت أن بدأ عبدالناصر خطابه التاريخى الذى استغرق ثلاث ساعات، وأنصت إليه العالم، وشمل شرحاً وافياً لقصة مصر مع القناة منذ حفرها بسواعد المصريين الفقراء، وسيطرة فرنسا وبريطانيا عليها، كان عبدالناصر يخطب على طريقته السهلة الممتنعة التى تمزج الماضى بالحاضر، معتمداً على ذكر وقائع فى التاريخ فى صلب الموضوع، وكانت كلمة «ديلسيبس» فى الخطاب هى كلمة السر المتفق عليها لبدء تنفيذ عملية التأميم فور نطق عبدالناصر بها، يقول أبوبكر: «خشى عبدالناصر أن تفلت كلمة السر من أسماعنا، فأخذ يكرر اسم «ديلسبس» أكثر من مرة، كررها 17 مرة، بلا ضرورة فى بعض الأحيان، ليتأكد أننا تلقينا الإشارة المتفق عليها، غير أننا كنا قد سمعنا تماماً، بل إننا تلقينا الإشارة من أول مرة نطق فيها اسم «ديليسبس».
وكانت الساعة حوالى العاشرة مساء حين وصل عبدالناصر فى خطابه إلى القول: «الآن وأنا أتكلم إليكم يقوم أخوة لكم من أبناء مصر، ليديروا الشركة العالمية لقناة السويس ويقوموا بعمل الشركة، الآن فى هذه اللحظة يتسلمون شركة القناة المصرية».
فور الانتهاء من هذه العبارة كانت «مجموعة التأميم» داخل مبانى الشركة فى مدن القناة الثلاث، وفتح سكان العمارات القريبة منها الشبابيك والأبواب ليتأكدوا مما سمعوه فى الخطاب فتأكدوا من الحقيقة، وفى أقل من ساعتين تمت السيطرة على جميع مكاتب الشركة وجرد المكاتب والخزائن وارتفع علم مصر عليها بدلاً من علم القناة، وأثناء ذلك طلب صحفى سويدى اسمه «أندرسون» كان يتابع الحدث مقابلة المسؤول عن العملية، فأدخلوه إلى «يونس» ليجد شخصاً بسيطاً يفترش الأرض عمره 43 عاماً، ونقل الصحفى السويدى هذه الصورة البسيطة إلى العالم والتى تدل على عمق الإرادة الوطنية والتصميم على أن يمسك المصريون بمصيرهم ومستقبلهم، وكان من اللافت أن الاثنين اللذين شاركا فى قيادة عملية التأميم كانا شباباً، فـ«عبدالحميد أبوبكر» عمره «33 عاماً» و«محمد عزت عادل» 31 عاماً، هكذا كان الشباب.
بعد أن دخل محمود يونس ومجموعته ومعه «عبدالحميد أبوبكر» مبنى هيئة القناة فى الإسماعيلية، جلس يونس على مكتب مسيو بيير مينيسه، المدير المالى والإدارى وأكبر موظف فرنسى فى الشركة، ثم أحضر صورة لجمال عبدالناصر، وحاول أن يثبتها على جدار المكتب، ولم يجد ما يدق به المسمار سوى تمثال فرعونى حديدى، فلم يتردد فى استخدامه وخلال ربع ساعة كانت عملية الاستيلاء قد تمت وبدأت مرحلة الجرد، وما جرى فى الإسماعيلية حدث أيضاً فى بورسعيد والسويس.
فى القاهرة دعا محمد أبونصير، وزير التجارة، إلى مؤتمر صحفى فى مكتبه بالوزارة أذاع فيه بياناً شرح فيه قانون التأميم وقانون وموقف شركة القناة، وقصتها مع المصريين شعباً وحكومة، وكان هذا البيان هو المذكرة الإيضاحية للقانون التى عكف على إعدادها بعد الظهر وتم الاتفاق مع الرئيس عبدالناصر على إذاعتها فى المؤتمر عقب إعلان قرار التأميم، وفى الوقت الذى كان وزير التجارة يعقد فيه مؤتمره، كان المديرون للإدارات الثلاثة يجلسون أمام محمود يونس ومعهم ضابط الاتصال المصرى المكلف بالترجمة.
كان يونس يجلس على مكتبه وخلفه صورة جمال عبدالناصر، وطلب من كمال بدر أن يبلغ المديرين الثلاثة قرار التأميم، وأن الشركة أصبحت مصرية تتلقى تعليماتها من مصر وليس من أى جهة خارجية كما كان، وفى البداية لم يستوعبوا ما قيل لهم فطلبوا من ضابط الاتصال المصرى إعادته مرة أخرى، فتلا محمود يونس القرار بالنص، وترجمه كمال بدر فقرة فقرة، وشرحه لهم، ولم يجد المديرون الثلاثة غير الصمت والإطراق.
سأل المديرون الثلاثة عن مصيرهم ومصير زوجاتهم وأولادهم فرد يونس بأن الحكومة المصرية تضمن سلامتهم وتؤكدها، وكل ما تطلبه الحكومة أن يستمر كل شخص فى أداء عمله المعتاد والحكومة مسؤولة على المحافظة على كل حقوقهم.