بعد أن عايشت الفكر العلمانى والعلمانية حينًا من الدهر، وكتبت فيها ما كتبت، أردت أن أضع خلاصة ما توصلت إليه فيها حتى يكون زادًا لمن يريد أن يبدأ هذا الطريق من بعد. فالعلمانية هى نبت غربى خالص نشأ فى البيئة الغربية مع بدايات عصر النهضة الأوروبية، لتكون الخطوة الأساسية والأداة المثلى لعبور العصور الوسطى إلى العصر الحديث، وذلك لأن العلم كان مرتبطًا برقابة الكنيسة، أى لا يمكن أن يُقدم رأيا علميا ويُعتمد من الجهات العلمية المختصة أو أن يُنشر إلا بعد عرضه على الكنيسة وأخذ موافقتها. ومن ثم انتشرت محاكم التفتيش فى أوروبا، وعانى العلماء والمبدعون أشد المعاناة تحت هذا الوضع المتسلط من الدولة الثيوقراطية؛ فحُكم على جاليلو بالسجن خمسة وثلاثين عامًا لأنه قال إن الأرض تدور حول الشمس لا العكس. كما حُكم على القس جيوردانو برونو بالإعدام حرقًا لأنه قال بآراء علمية خالفت اتجاه الكنيسة.. وطال هذا العقاب الكنسى الكثير من علماء ذلك العصر. كما اشتهرت الكنيسة الكاثوليكية حينذاك بتحكمها فى تفسير النصوص الدينية الواضحة بتفسيرات غامضة لتبرر وجودها ولزومها، بل غالت فى استغلال العقيدة الدينية فى تحصيل المنافع الدنيوية بطرق تحط من كرامة الدين مثل صكوك الغفران المالية للأحياء أولاً ثم للأموات من أقربائهم.
ومن ثم تجمد العلم وكثرت موجات الإلحاد وعاشت أوروبا أسوأ عصورها على الإطلاق؛ فكان لابد للتخلص من تلك السطوة الكنسية العنيدة، فلم يتسن لها هذا إلا بالعلمانية التى تفصل الدين عن العلم وعن الدولة وعن السياسة والاقتصاد والاجتماع والسلوك...بحيث يصير ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
ولكن هل توقفت موجات الإلحاد فى أوروبا أم زادت بإعلان العلمانية، الحقيقة هو زيادة موجات الإلحاد حتى عند أشهر مفكريها، بل وأصبح الدين الذى من المفترض أن تكون العلمانية قد نحته تمامًا، هو المحرك الأساس لسياسات الغرب ضد الإسلام مثلا، بدليل وجود ظاهرة الإسلاموفوبيا فى الغرب ورؤية صراع الحضارات وغيرها. وما حدث فى صربيا ضد مسلمى البوسنة والهرسك فى تسعينيات القرن الماضى أكبر دليل. بل أن المتأمل فيما يحدث الآن سيلاحظ بسهولة تعنت الغرب المسيحى ضد الشرق الإسلامى فى كثير من الأمور. وبناء عليه فالغربيون رغم إعلانهم الإيمان بالعلمانية لم يدعوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
أما العلمانية العربية فهى تختلف فى كثير من التفاصيل الأساسية والفرعية عن العلمانية الغربية، فكثير من العلمانيين العرب يصلون ويصومون ويزكون ويحجون، بل هم فقط يريدون ألا يفكروا فى النسبى بطريقة مطلقة، وببساطة، هم يريدون أن ينأوا بالدين المقدس بعيدًا عن دنس السياسية، وأن يبتعدوا عن توظيف الدين لخدمة السياسة.
ولذلك يمكننا الحديث عن تهافت العلمانية العربية أيضًا لأن الإسلام لا يعادى العلم بل يحث عليه، فأول آيات القرآن الكريم هى " اقرأ" وثانى سورة هى "القلم"، والإسلام منهاج تام للدين والدنيا، للعقيدة والشريعة والحضارة والأخلاق، للحياة الدنيا والآخرة.. فالدعوة إلى إبعاد الإسلام بالعلمانية -كما يقول الشيخ جاد الحق على جاد الحق- عن سياسة الدولة وشئون العمران، هو قطع لإحدى ساقيه، وتعطيل لإحدى رئتيه، وكفران ببعض آيات كتابه، ينتقص من كمال واكتمال الإيمان بهذا الإسلام.
ومن ثم فلا شأن لنا بالعلمانية تلك النبتة الغربية الخالصة، فلن تزهر فى بلادنا إلا شوكاً، فلا ضرورة لنا بها، وعلينا أن نبحث عما ينفعنا وأن لا ندع ما لقيصر لقيصر، بل علينا أن نحاسب قيصر على ماله، وأن نأخذ على يديه فى عمله.
د. غيضان السيد على يكتب: تهافت العلمانية بمفهومها الغربى والعربى
الجمعة، 11 سبتمبر 2015 12:19 م
ورقه وقلم - أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة