عبد الرحمن مقلد يكتب: "يارا"..كيف كتب "محمد رياض" قصيدة "جميلة"؟

الخميس، 03 سبتمبر 2015 05:13 م
عبد الرحمن مقلد يكتب: "يارا"..كيف كتب "محمد رياض" قصيدة "جميلة"؟ غلاف الكتاب

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ينجو الشاعر محمد رياض فى ديوانه "يارا" الصادر عن دار روافد، وكذلك فى ديوانه السابق "الخروج فى النهار" من "الجفاف" الذى تعانيه الكثير من قصائد النثر التى تكتب فى الوقت الحالى، ليأتى نصه فياضا بماء الشعر، حيث ينهل من أكثر من رافد، أولها "رافد المجاز وثانيها بهاء اللغة وتواصلها فى ذات الوقت وثالثها متعة الإنشاد".

أولا ننتبه للاهتمام رياض الزائد بالمجاز الذى اعتبره كثيرون عبئًا على القصيدة، إلا أن شاعرنا يتجاوز هذه الرؤية "الظالمة" ولا يخلو مقطع من ديوانه من صورة أو تشبيه او استعارة أو كناية.
يعى "رياض" جيدًا أن الأزمة ليست فى المجاز فى حد ذاته، وإنما فى تكرار تصويرات وأنماط بعينها ابتدعها شعراء بعينهم، وأصبحت فيما نهبا ومشاعا بين كاتبى الشعر.

مثلا لو اخرتنا مقطعا واحدا بشكل عشوائى من ديوان "يارا"، وليكن من قصيدة "نشيد الأناشيد"، لنر كيف يعدد الشاعر أوجه التصوير بشكل أو بآخر.

يقول رياض: "تعالَيْ معي يا جميلتي، معي يا مفجّرةَ العبقرياتِ الصغيرةِ في حواسي، إن قلبي صريحٌ كرائحتِك، متوهّجٌ وحرٌ كقمرٍ خارجَ المدار.. العالمُ لا يحتاجُني، يريدُ لو يقذفُني كبصقةٍ أخيرةٍ من نافذةِ الأبد. العالمُ لا يُطيقُ تصوراتي".

وهنا نرى "التمثيل" فى قوله : "إلى قلبى صريح كرائحتك.. وحر كقمر، ويقذفنى كبصقعة أخيرة"، ونرى الاستعارة مثل "نافذة الأبد" و"قلبى صريح" والعالم لا يطيق تصوراتى"، ونرى الكناية "يا مفجرة العبقريات" إلخ...

هكذا يسير الشاعر فى كل ديوانه منوعًا ومبدعًا فى صوره، خارجا عن التشابه مع سابقيه من الشعراء، واصلا الشعر الجديد بالبلاغة القديمة، حيث يأتى إن صح أن نقول بـ"قوالب المجاز" فى اللغة العربية، ويملأها بابتكارته.

لا يمكن أن نعدد فى الديوان "الصور المدهشة" التى اعتمد عليها "رياض" بشكل كبير فى تشكيل بنائه الشعرى، فلا تكاد تخلو جملة واحدة من اكثر من صورة، وهو ما شكل أكبر روافد "الشاعرية" لديه، لذا يوليها "الشاعر" عنايته الفائقة، لإدراكه كيف تصنع فارقا فى قصيدته.

الرافد الثانى الذى ينهل منه محمد رياض ماء الشعر، هو رافد "اللغة"، والتى يدرك الشاعر أن دورها التى لا يقتصر عند كونها أداة توصيلية، فقط، (كما يدعى كثر)، ولكن الزهور الجميلة التى تنبت فى مخيلته يليق بها أن توضع فى "إناء" يناسبها تماما، هذا لو فصلنا أصلا اللغة عما تحمله من معنى.

تملك الكلمات التى يكثر "رياض" من استخدمها، تاريخًا مسبقًا فى وجدان قارئى الشعر، ما يجعلها أكثر تحفيزا للخيال، وسهلة فى القراءة، وسرعة فى الإدراك والتفاعل.

صحيح أن الشاعر لا يتقفى أثر سابقيه وينحو بجد نحو نموذجه الخاص، إلا أنه يدرك أهمية المشترك فى الوجدان الشعرى، العربى خاصة، والعالمى عاما، يدرك الشاعر أن ألفاظا مثل "وردة.. الحبيبة.. العواصف.. الأقمار.. اللؤلؤة.. السماء.. الأمطار.. الأحلام.. الحدائق.. الجدران.. شواهد القبور.. الأشجار.. الريح.. العناق.. إلخ"، سريعة الوصول إلى القلوب، فلما يغفلها، بكل ما بها من طاقة وبريق، طالما حملها بدلالاته الخاصة، ويمزجها بألفاظ أخرى تشكل "وخزا" ومفاجأة للقارئ، بما تحمل من ذكرى قريبة وألم مشترك وواقع متشابه، مثل كلمات "المدرعات.. الصحف .. المقاهى.. الدبابات.. الجدران.. الطوارئ.. المروحيات.. المحرض.. السلم العام.. مؤامرة على الحاكم.. التصاريح.. الانتحار.. الجوع.. قنابل الغاز.. الرغيف.. الحواجز .. إلخ".

ويظهر جليا لقارئ الديوان المزج الذى يعتمد عليه الشاعر بين الحالات الوجدانية وبين الثورة المجهضة والواقع الذى نعيشه، من خلال ترميز إحدى سجينات الثورة "يارا سلام"، وتحويلها لأيقونة وجدانية ونضالية، محبوبة ومشعلة ثورة"، وهو ما يؤكد ما ذهبت إليه من اعتماد الشاعر على معجم "شعرى" متوارث وذا دلالات سابقة ومعجم "شعرى" واقعى، فيشكل "الأول"، الظلال الورافة لـ"الثانى"، ليصنعا معا "الخصوصية" المطلوبة.

وكثيًرا ما يستخدم الشاعر صيغا مثل "المضاف والمضاف اليه"، فياتى المضاف من المعجم الأول والمضاف إليه من المعجم الثانى والعكس، وكذلك تأتى "الصفة والموصوف"، الصفة من الرافد اللغوى المتوارث والموصوف من الرافد "الواقعى" والعكس أيضا، هذا بالإضافة للمزج بين الرافدين فى الجملة الواحدة.

ثالث الروافد التى يسقى منها الشاعر محمد رياض قصيدته، "الإنشاد"، والذى أغلفه العديدون، وحولوا القصيدة فى جزء كبير منها لنص مقروء فقط، وليس نصا مسموعا ممتعا للآذان أيضا.

وأظن أن مزج الشاعر للرافدين السابقين "اللغة والمجاز" بالإضافة للروح الوثابة والصدق والمشترك الفكرى والنفسى الكبير الذى يتجلى فى الديوان، مكنه من أن ينقل بحرارة عالية تجربة جيل أجهطت ثورته، ومعها وئدت أحلامه الخاصة والعامة، احلامه فى الحب وفى رؤية وجه بلاده يشرق، يقول الشاعر:
"تهجرنا الحبيباتُ إذا لم تغفري لنا.. كالضواري نتعاركُ من أجل سيجارةٍ ودقيقةٍ للحديث.. ويضربُ الصخبُ أفكارَنا كالعواصف.. إننا عاجزون عن الطموحِ، وعاجزون عن الهتافِ، وعاجزون عن الموت..ضائعون في زحامِ المطالبِ المنزلية.. وزمجرةِ البائعين.. ارفعي وجهَكِ لكي تهدأَ الكوابيسُ التي تعذّبنا.. أديري عينيْكِ لنعرفَ هل بإمكاننا أن نعيش لحظةً من النقاءِ والحقيقة"

هكذا يمضى الشاعر طول ديوانه، مهتما بماء الشعر، فى زمن عم فيه الجفاف، الكثير، مما يكتب فى قصيدة النثر التى أنهكها مقولات مثل: "المتدوال والواقعى والمهمش والهم الذاتى" وغير ذلك من قائمة حسرت النص فى إطار متشابه، وجاف، ومن أجل ألا يقع "رياض" فى هذا، يعود إلى الأبار القديمة للشعر وينهل منها، فى الوقت الذى يحفر فيه بأيديه، مجراه الخاص.



موضوعات متعلقة..


صدور ديوان "يارا" لـ"محمد رياض" عن "روافد"





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة