أحمد عادل زيدان يكتب: الوقف والنهضة العلمية.. بين الماضى والحاضر

الأحد، 17 يناير 2016 03:01 ص
أحمد عادل زيدان يكتب: الوقف والنهضة العلمية.. بين الماضى والحاضر الحضارة الإسلامية - صورة أرشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لم تبلغ حضارة من الحضارات ما بلغته الحضارة الإسلامية من الرقى والسمو فى ضروب الحياة الإنسانية، كما لم تبلغ الحضارة الإسلامية ما بلغته من تطور ورقى لقوة جيشها وبأس فرسانها فحسب، بل بالعلم والمعرفة وبذل الخير والعطاء، وكان ما يعرف بنظام الوقف أحد السمات التى تفردت به حضارتنا عن غيرها والذى ساهم فى بناء الحضارة الإسلامية وشكل بؤرة نهضتها العلمية والفكرية، ومن خلاله بُنيَت كثيرٌ من المساجد والمدارس ودور التعليم، والمكتبات الخاصة والعامة، والمراكز العلمية والبحثية وغيرها من مجالات فى مختلف مناحى الحياة، فقد كان الوقف مجالاً لتنافس الواقفين من حكام ووزراء وعلماء وأفراد على إنشاء دور العلم والمكتبات وجمع الكتب من أى قطر وبأى ثمن وإتاحتها لأفراد المجتمع بكافة شرائحه.

وفى هذا الشأن يؤكد الشاعر معروف الرصافى على أثر الوقف فى الحضارة الإسلامية فى أبياتٍ نظمها :

للمسلمين على نُزُورةِ وفْرِهم كنْزٌ يَفيضُ غِنى من الأوقاف
كنْزٌ لـو اسْتشْفَوْا به من دائهم لتوجَّـروا منه الدواءَ الشافى
ولو ابتغَـوْا للنَّشءِ فيـه ثقافـةً لتثقَّفـوا منه بخيْـرِ ثِقـافِ

لعب الوقف دوراً حيويا فى إرساء دعائم حضارة مزدهرة ذات طابع أخلاقى وسلوك إنسانى رشيد، وأوجد نهضة علمية وثقافية شاملة، وكان عماد مشاعل الحضارة العربية الإسلامية التى أضاءت جنبات العالم والتى لازلت آثارها شاخصة فى كل مناحى الحياة حتى اليوم.

لقد ساهمت أموال الوقف بنصيب وافر فى تنمية التعليم وازدهار الحركة العلمية فى الحضارة الإسلامية، وكانت هذه الأموال هى المورد الأساسى للمدارس والمراكز العلمية والمكتبات، اعتمدت عليه اعتمادا كليا فى نفقاتها وحاجاتها،، فلا تكاد تجد مدرسة ولا مكتبة إلا ولها أوقاف خاصة يصرف ريعها فى الإنفاق عليها.

وهو ما حدا بالمقرى فى كتابه "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" أن يصف الحالة الثقافية التى عايشها فى الأندلس بقوله "و أصبحت الكتب فى الأندلس مورداً رائقاً وسوقها نافقاً والبذل فيها جوداً – وإن كثر- والسفر لأجلها والسهر فى تدبيجها متعة، وكان ذلك عاماً بين النساء والرجال وعموم الناس وخاصتهم، حكاماً ومحكومين علماء ومتعلمين"

وإذا أردنا أن نقف على فضل الوقف ودوره الكبير فى رفد الحركة العلمية فى الحضارة الإسلامية، فسنجد كم هائل من المدارس والمراكز العلمية والمكتبات التى انتشرت فى ربوع البلاد الإسلامية، كان من آثار ذلك ظهور أعداد هائلة من العلماء والباحثين والمخترعين ورجال الفكر ومن ثم نتاج علمى وفكرى هائل قدر بمئات الآلاف من الكتب والمخطوطات فى شتى المعارف الإنسانية والتخصصات الثقافية والعلمية والاجتماعية التى أثرت المعرفة الإنسانية حتى يومنا هذا.

لقد كان الوقف أحد عوامل الازدهار العلمى والثقافى فى الحضارة الإسلامية، كما كان أحد الدعائم الأساسية لمعظم مؤسسات الدولة عامة والمكتبات خاصة، أما الآن فقد توارى دور الوقف فى المجتمع بالرغم من أننا اليوم فى أمس الحاجة لتفعيل وإحياء هذه السنة الجليلة.

وبرغم ندرة المبادرات والمشاريع الوقفية فى العصر الحالى إلا أن هناك نماذج عصرية رائدة تبعث الأمل والتفاؤل فى النفوس من أهمها مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، والتى تعد تجربة وقفية فريدة هدفها تشجيع الكفاءات العلمية فى بلداننا على الانطلاق والارتقاء فى رحاب العلم، تعمل المؤسسة فى ثلاثة قطاعات تحاول من خلالها تحقيق رسالتها الاستراتيجية، وهذه القطاعات هى: الثقافة، المعرفة والتعليم، وريادة الأعمال وفرص العمل.

قطاع الثقافة :يهدف هذا القطاع إلى إعادة الاعتبار للتراث الثقافى، وتشجيع إنتاج المزيد منه وتعزيز التفاعل بين مختلف الثقافات، وغايتها فى ذلك إعداد جيل من قادة المستقبل، وبناء مجتمع المعرفة.

ومن أهم البرامج العملية التى تبناها قطاع الثقافة مشروع (ترجم)، ويهدف هذا البرنامج إلى إثراء المكتبة العربية بأفضل ما قدمه الفكر العالمى من أعمال فى مجالات شتى، عبر ترجمة أعمال أجنبية إلى العربية، ويسعى أيضاً إلى إظهار الوجه الحضارى للأمة عبر ترجمة الإبداعات العربية إلى لغات العالم.
وهناك مشروع آخر رائع يندرج تحت قطاع الثقافة وهو مشروع (مكتبة العرب)، والهدف من هذا المشروع تكوين مكتبة إلكترونية ضخمة تضم كتباً وأعمال شعرية وسيراً ذاتية ومقالات ودوريات ستكون متاحة بشكل سهل أمام المتصفح العربي، وتأتى هذه المبادرة لتلبية احتياجات الباحثين من خلال مصادر يسهل الوصول إليها، بالإضافة إلى ذلك فإن (مكتبة العرب) تأتى كمساهمة لإثراء المحتوى الرقمى العربى كماً وكيفاً، كما أن هناك مشاريع أخرى هامة تندرج تحت قطاع الثقافة مثل موسوعة السرد العربي، وكتاب فى كبسولة وغيرها من المشاريع الرائدة التى تتبناها المؤسسة فى تجربة عربية فريدة ورائعة.

قطاع المعرفة والتعليم تسعى المؤسسة لإقامة بنية تحتية للتعليم العالى بما يضاهى أرقى المعايير العالمية لتحسين مستوى التعليم فى الوطن العربى.

وهناك بعض المشاريع الرائدة التى تندرج تحت هذا القطاع مثل "مشروع البعثات" الذى يوفر فرصاً للطلاب العرب وفقاً لمجموعة المعايير التى حددتها المؤسسة للحصول على منح دراسية للدراسات العليا فى كبريات الجامعات العالمية فى مجالات إدارة الأعمال والإدارة العامة والسياسة العامة والمالية، كى يعودوا للمساهمة فى جهود التنمية فى الوطن العربى.

قطاع ريادة الأعمال وفرص العمل تهدف المؤسسة فى هذا القطاع إلى تشجيع التميز فى العمل، وتمكين الشباب من طرح مبادرات مبتكرة من شأنها خلق فرص جديدة للعمل فى المنطقة، ومن هذه المشروعات المبتكرة "مشروع فيلبس للابتكار" الذى يقدم من خلاله دعوة سنوية إلى الجامعات وحاضنات الأعمال الشريكة لتقديم المفاهيم الابتكارية فى مجالات: الرعاية الصحية، والإنارة، وأسلوب حياة المستهلكين. يتم من خلالها اختيار ثلاثة مبتكرين سنوياً تستضيفهم مؤسسة "فيلبس" العالمية ليحولوا ابتكاراتهم إلى دراسات متطورة لشركات محتملة. إن مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم تعتبر بحق نموذج وقفى فريد فى عالمنا العربى المعاصر يحيى سنة عظيمة وهى الوقف بأسلوب عصرى راق ومبتكر يستثمر آلاف من الطاقات والكفاءات العربية والإسلامية المهدرة، كما أنه باعث أمل لإحياء المنظومة التعليمية والثقافية العربية.













مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة