كنت ألعب مع أقرانى لعبة الاستغماية وهى لعبة محببة للأطفال نجرى ونختبئ من بعضنا البعض وتبدأ عملية البحث التى تنتهى بالصياح والتهليل عند الإمساك بأحد المختبئين، ألعاب طفولية بسيطة كنا نتغلب بها على الملل الذى يصيب حياتنا كأبناء المهجرين الذين تركوا بلادهم وديارهم ومدارسهم وأسرِّتهم التى ودّعوا الدفء بالبعد عنها، حتى العرائس والدمى ضحوا بها وتركوها لأن ما يمر بالأسرة والوطن أهم من الدمية، ودّعنا حياتنا فى بلدنا وودّعنا كل ما يتعلق بها وأصبحنا نحمل لقب مهجرين أو مهاجرين فكلاهما سواء، وهو أننا بلا مأوى وبلا عمل وبلا دخل وبلا..... وبلا.
أشياء كثيرة فقدناها برحيلنا عن ديارنا وبعد أن كنا ننام ونصحوا على صافرات الإنذار والغارات الجوية ونزولنا مهرولين إلى الخنادق وسط نظرات الرعب والخوف من القادم، أصبحنا نعيش حياة رتيبه فى بلاد المهجر نلعب بالنهار ونلتف حول الراديو بالليل تحت سماء تنيرها قناديل العدو الإسرائيلى، ولكن فى هذا اليوم لم يعلو صوتنا مهللا ولا نسمع صياحنا ونحن نلعب ولكن... أطبق سكون قاتل فجأة قطَعه صوت يحِف فى الهواء صوت لا تعرف له وصف, وما هى إلا لحظات وتقع أمامنا بقايا حطام طائرة وننظر إلى السماء لعلنا نعرف مصدرها بعقلنا الصغير، ولكننا نرى شخص يهبط بالبارشوت والناس تجرى لعلها تلتقيه عند نزوله الأرض وآخر يهبط فى إحدى الترع ويفرد زورقه البلاستيكى والأهالى تقذفه بالحجارة والأحذية القديمه وكل ما تطوله أيديهم ثم تلاه سقوط صاروخ ومن حسن الحظ إنه سقط فى أرض زراعيه تم ريّها وهذا ما سمعته وقتها لأنه لم ينفجر، وساد المكان الهرج والمرج ونحن فى حالة من الصمت فإن كنا أولاد مدن القناة الذين عاصروا النكسه وضرب إيلات وعاصرنا ما يفوق استيعاب عقل طفل مما جعلنا أكبر من أعمارنا إلا إننا لم نستوعب كل تلك الأحداث المسرعة وراء بعضها والتف الأهالى حول الراديو وسط صمت رهيب ثم تهليل وصيحات الله أكبر، قضينا تلك الأيام نستمع لقصص البطولة من الكبار ونستمتع بتجمعنا حولهم وكان يقطع هذه الفرحة وهذا الاستمتاع سماع صرخة أم ثكلى تستلم متعلقات ابنها الشهيد ساعة يد أو دبلة أو حافظة النقود والبطاقة الشخصية وكنت أرى لوعة الحزن والأسى فى العيون والتى يعجز قلمى عن وصفها، وبكاء أطفال وعويل أرامل فقدوا عائلهم واختلطت الأفراح بالأحزان وأقيمت سرادقات العزاء وكنت تراها كأنها سرادقات أفراح ,فالحزن الشخصى ذاب فى فرحة الوطن.
43 عاما ونقترب من النصف قرن ومازالت تلك الحرب المجيدة حرب أكتوبر تدرس بكل الكليات والأكاديميات العسكريه العالميه ومازالت مصدر إبهار واحترام العسكريه الدوليه ,وبعد الأسى الذى كنا نعيشه من نكسه يونيو والانكسار الذى كنا نعانيه أصبنا الأمل فى أن غدا هو الأفضل بإذن الله فقد عبرنا المستحيل وهو خط بارليف هذا الخط الصهيونى الذى كان تعبيراً عن هوية إسرائيل التى لا تقهر، عبرنا القهر الدولى واليأس من أن تعود مصر وتعود لها مكانتها، سمعنا كلمات ومصطلحات لم نعرف معناها ولا ندرك ما تعنيه سمعنا عن ثغرة الدفرسوار والجسر الجوى الأمريكى لإسرائيل، ومعاهدة السلام واحتبست الأنفاس ونحن نتابع الرئيس السادات وهو يذهب إلى إسرائيل فى عقر دارها وكل التكهنات تدور فى الرؤوس، وعقد معاهدة كامب دافيد وعوقبت مصر بالحصار الاقتصادى، واجهنا حربا لاتقل ضراوة عن الأخرى ولكننا بقوة الإيمان والصبر والعزيمة عبرناها أيضا، وكأن حرب أكتوبر كانت لحظة ميلاد لكل المصريين تحية لبطل الحرب والسلام، تحية لأرواح شهدائنا التى سالت دمائهم الطاهرة تروى الأرض فى كل مكان، تحية لكل أم أعطت مصر ابنها شهيداً ولكل زوجة فقدت زوجها ودمرت أسرتها فداء لمصر تحيه لكل من يفدى وطنه ويعمل على رفع مكانتها وكل عام ومصر بخير وسلام.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة