هذا الشاب الذى قيل له إن نجيب محفوظ مرتد ومن ثم يستحق القتل، لم يقرأ حرفا واحدا من هذه الأعمال، ومع ذلك نفذ ما طلب منه ولم يندم عليه لا هو ولا شركاؤه فى تنفيذ تلك الجريمة التى وإن كانت قد جعلت أديبنا الكبير غير قادر على استخدام يده فى الكتابة، فإنها لم تمنعه من مواصلة إبداعه الأدبى عبر إملاء ما يود كتابته على بعض أصدقائه، حتى وافته المنية.
هذا نجيب محفوظ أبو الرواية العربية، المتسامح، الذى رفض أن يخوض معارك طويلة، سواء مع من حاول اغتياله أو من رفض نشر أعماله، فضرب لنا جميعا نموذجا فى التسامح والتصالح مع الآخرين.
فى أكتوبر 1995 طُعن نجيب محفوظ فى عنقه على يد شابين قررا اغتياله لاتهامه بالكفر والخروج عن الملة بسبب روايته المثيرة للجدل "أولاد حارتنا"، ونظرا لطبيعة نجيب محفوظ علق قائلا على هولاء الشباب "أنه غير حاقدٍ على من حاول قتله، وأنه يتمنى لو أنهما لم يُعدما"، ولكن فيما بعد أُعدم الشابان المشتركان فى محاولة الاغتيال.
لم يمت نجيب محفوظ كنتيجة للمحاولة، وخلال إقامته الطويلة فى المستشفى زاره محمد الغزالى الذى كان ممن طالبوا بمنع نشر أولاد حارتنا وعبد المنعم أبو الفتوح القيادى السابق فى حركة الإخوان وهى زيارة تسببت فى هجوم شديد من جانب بعض المتشددين على أبو الفتوح.
"أولاد حارتنا" منع نشر ومحاولة اغتيال
هذه الرواية تم منع نشرها فى طبعة مصرية لسنوات عديدة، بعد رفض وهجوم شيوخ ينتمون إلى الأزهر وكانوا يوصفون تلقائيا بالاعتدال، قرروا منع "أولاد حارتنا"، وضغطوا من أجل وقف نشرها مسلسلة فى "الأهرام" فى خمسينيات القرن الماضى، حيث كان قد ارتبط بوعد مع حسن صبرى الخولى "الممثل الشخصى للرئيس الراحل جمال عبد الناصر" بعدم نشر الرواية فى مصر إلا بعد أخذ موافقة الأزهر، فطُبعت الرواية فى لبنان من إصدار دار الأداب عام 1962 ومنع دخولها إلى مصر رغم أن نسخا مهربة منها وجدت طريقها إلى الأسواق المصرية.
هجوم ودفاع
كانت من ضمن الانتقادات التى وجهت أيضا للرواية والمستمرة إلى الآن، عندما وصف "أبو إسماعيل" رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ بالرواية الإجرامية التى تتطاول على الذات الإلهية، وبرر أبو اسماعيل تلك الأوصاف بأن الأزهر سبق أن قال ذلك بعد أن اطلع عليها واكتشف أنها تهين الذات الإلهية والأنبياء، وأضاف أنها ليست رواية لكنها "إسقاطات"، وجاءت تصريحات أبو إسماعيل بعد أقل من شهرين من تصريحات لعبد المنعم الشحات، الذى قال فيها إن أغلب روايات نجيب محفوظ تدور حول الدعارة وأوكار المخدرات، وتحمل ما أسماه "فلسفة إلحادية".
الغريب أن تلك التصريحات جاءت فى ذروة الدعوات للاحتفال بمئوية نجيب محفوظ التى انشغل الكثيرون عنها بأحداث الثورة إلا قليلا، فالجامعة الأمريكية مثلا ربطت بين الحدثين، مئوية أبى الرواية العربية وثورة 25 يناير بأن منحت جائزتها التى تحمل اسم نجيب محفوظ إلى إبداع الثورة المصرية، وكانت المرة الأولى فى تاريخها التى لا تمنح فيها تلك الجائزة إلى كاتب بعينه.
المدافعون عن نجيب كانت لهم أراؤهم التى أعلنوها من ما نشرته "الأهرام" فى أعقاب نجاة نجيب محفوظ من محاولة الاغتيال فى مقال للمفكر الدكتور أحمد كمال أبو المجد قال فيها "شهادة أرجو أن أدرأ بها عن كتابات نجيب محفوظ سوء فهم الذين يتعجلون الأحكام ويتسرعون فى الاتهام، وينسون أن الإسلام نفسه قد أدرج كثيرا من الظنون السيئة فيما دعا إلى اجتنابه من آثام، كما أدرأ عن تلك الكتابات الصنيع القبيح الذى يصر به بعض الكتاب على أن يقرأوا فى أدب نجيب محفوظ ما يدور فى رءوسهم هم من أفكار، وما يتمنون أن يجدوه فى تلك الكتابات، ما نحين أنفسهم قوامة لا يملكها أحد على أحد، فضلا عن أن يملكها أحد منهم على كاتب له فى دنيا الكتابة والأدب ما لنجيب محفوظ من القدم الثابتة، والتجربة الغنية، والموهبة الفذة النادرة التى أنعم بها عليه الله".
حسين حمودة: كان إرثا فى كيفية الإيمان بقيمة التسامح إلى أبعد مدى
من جانبه يقول الدكتور حسين حمودة، أستاذ الأدب العربى بجامعة القاهرة، عن مواقف نجيب محفوظ فى مواجهة تلك الأزمات، أن قيمة التسامح آمن بها "نجيب محفوظ" طوال حياته، وجسدها فى كثير من كتابته، ودافع عنها فى كل ممارساته، وبجانب هذه القيمة، كانت هناك قيم أخرى، مثل "العدالة، الحوار، والتعدد".
مشيرا إلى أن الذين حاولوا اغتيال "محفوظ"، دون أن يقرأوا له عملا واحدا، ولا جملة أو عبارة واحدة، كانوا بعيدين عن هذه القيم، ولكنه ظل مؤمنا بهذه القيم حتى مع محاولتهم هذه.
وأضاف "حمودة" فى تصريحات لـ"اليوم السابع"، أن "محفوظ"، رأى فى الشابين اللذين طعنه أحدهما، "ضحايا"، لا ذنب لهما سوى طاعتهما لأولئك الذين وضعوا فى رؤسهم بعض الأفكار السوداء، موضحا "أتصور أن هذا إرثا فى كيفية الإيمان بقيمة التسامح إلى أبعد مدى"، وتابع "قيمة التسامح هذه يمكن أن تضع أفكار التعصب والعدوان موضعا آخر غير ما هى عليه".
وأكد حمودة قائلا "ربما يجب على من لا يزالون يتوهمون أن نجيب محفوظ قد جاوز القيم الروحية، أن يعيدوا النظر فى تصوراتهم، وأن يستوعبوا الدرس الذى قدمه لنا ولهم فى الإيمان يقيمة التسامح".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة