منذ زمن بعيد، الأغلبية العظمى من المجتمع ينظرون إلى «المريض النفسى» نظرة قاصرة، تجعله فى الغالب لديه إحساس أنه منبوذ، على الرغم من أن المرض النفسى يعد مرضًا عاديًا من الممكن أن يصاب به أى منا، خاصة فى ظل الظروف الحياتية والضغوط، التى نتعرض لها بشكل مستمر هذه الأيام.. «اليوم السابع» انتقلت إلى «مستشفى المعمورة للطب النفسى»، بالإسكندرية التابعة إلى وزارة الصحة، والتى تعد ثالث أكبر مستشفى لعلاج الأمراض النفسية فى مصر، لتتعرف على أحوال المرضى والمستشفى.
يقول الدكتور محمد زهدى، مدير مستشفى المعمورة، إن المستشفى تم افتتاحها عام 1968، وكانت فى بدايتها المستشف النفسية الاولى على مستوى الجمهورية، إلا أنها أصبحت الثالثة بعد الخانكة والعباسية، حيث تتسع لـ 948 مريضًا، وبها الآن 820 مريضًا موزعون على مختلف أقسام المستشفى، التى تنقسم إلى أقسام للرجال وأخرى للنساء، منها ما هو اقتصاد لا تتعد تكلفة العلاج بداخلها الـ 300 جنيه شهريا، والمجان الذى يحصل على نفس الخدمة المقدمة للأقسام الاقتصادية، من حيث العلاج والأدوية والأطباء والطعام، ولا فرق بينهما إلا فى مساحة العنبر وعدد الأفراد داخل الحجرة.
ويضيف زهدى، أنه يوجد بالمستشفى أيضًا «قسم علاج الإدمان» الذى يعتبر من أفضل الأقسام على مستوى الجمهورية، ويضم 70 سريرا، منهم 20 سريرا بقسم إزالة السموم، و50 سريرا فى قسم التأهيل، مشيرا إلى أن المستشفى متخصصة فى علاج الأمراض النفسية والعقلية فقط وليس العصبية العضوية، وإنه يتم تقسيم المرضى وفقا للمراحل العمرية، حيث يوجد قسم للمراهقين تحت 18 عاماً، ويوجد بهذا القسم مريض عمرة 12 عاماً مصاب بالتوحد، كما يوجد قسم للكبار من 18 إلى 60 عاماً، وقسم المرضى النفسيين من المسنين فوق 60 عاماً.
ويؤكد زهدى، أن هناك قسما للطب الشرعى بمستشفى، يوضع فيه المتهمين، الذين تظهر عليهم أعراض المرض أثناء تحقيقات النيابة، حيث يظل المريض المتهم تحت الملاحظة لمدة 45 يوما، مشيرا إلى أن 95% من المرضى، الذين يستقبلهم القسم يتم إثبات مسؤوليتهم عن الجرائم التى ارتكبوها، حيث إنه لإثبات المرض والحصول على البراءة، لابد من إثبات أن المريض كان غير مسؤول عن سلوكه خلال ارتكاب الجريمة، وأن المرض النفسى، الذى يعانى منه كان سببًا رئيسيًا فى ارتكابها، وهو ما يحدث نادراً.
وحول أنواع الأمراض النفسية الأكثر انتشارا بين المرضى النزلاء بالمستشفى يقول «زهدى»: إن هناك مختلف أنواع الأمراض النفسية والعقلية، من أمراض «الفصام، والاضطراب الوجدانى، وأمراض الذهان، والبارانويا، وجنون العظمة» مشيرا إلى أن هناك مريضا بقسم الرجال يعتقد أنه المهدى المنتظر، وكان يدعو المرضى بالعنبر وفريق العمل الطبى للهداية، ومريض آخر كان يظن أنه إمبراطور العالم، وكان يوقع شيكات بملايين الجنيهات للأطباء وفريق العمل بالمستشفى، ويقدمها لهم على أنها مكافآت، مؤكدا أن الضغوط النفسية للحياة اليومية أدت إلى زيادة معدلات الإصابة بالأمراض النفسية، مشيرا إلى أن المريض النفسى يتعايش مع الظروف الاجتماعية والسياسية المحيطة، وهناك البعض تأثر بأحداث الثورة، وأعتقد أنه قائد الثورة، والبعض الآخر ظهر تأثره بتلك الأحداث فى الرسومات، التى كان يرسمها بيده، مؤكدا أن الأمراض النفسية أصبحت ترتقى فوق أمراض القلب والجلطات والشرايين فى التصنيفات العالمية، متوقعا أن يصل مرض «الاكتئاب» المقدمة بين الأمراض فى العالم نتيجة للظروف والضاغطة اليومية.
الشفاء التام
وحول إمكانية الوصول إلى الشفاء التام والعودة مرة أخرى إلى المجتمع، قال مدير مستشفى المعمورة للطب النفسى: «إن المرض العقلى مزمن ويصعب الشفاء منه بنسبة 100%، ولكن هناك بعض الحالات، التى تشهد تحسنا واستقرارا، ويمكن لها الخروج إلى المجتمع وممارسة الحياة الطبيعية بشرط المواظبة على العلاج، مؤكدًا أنه فى بعض الأحيان يصعب خروج بعض الحالات من المستشفى، نظرا لصعوبة الاستدلال على أحد ذويهم لاستلامهم، أو رفضهم الأهل استلام المريض، الذى تستقر حالته، أصبح منذ صدور قانون «رعاية المريض النفسى» الجديد الذى صدر عام 2009، هناك إلزام بضوابط لاستلام المريض، حيث يسمح بالدخول الإرادى للمريض، الذى يشعر باحتياجة للعلاج والخروج بعد تحسن حالته على مسؤوليته، أو الدخول الإلزامى دون رغبة المريض عن طريق أهل المريض، ويستلزم الأمر هنا ضرورة توقيع أحد أقارب المريض من الدرجة الأولى، وفى تلك الحالة أصبح لزاما لخروجه ضرورة استلام الأهل له بعد استقرار الحالة.
وأشار زهدى، إلى أنه تم مؤخرا توقيع بروتوكول بين الأمانة العامة للصحة النفسية ووزارة الشؤون الاجتماعية، ينص على إيداع المرضى الذين تحسنت حالاتهم فى إحدى دور الرعاية التابعة للشؤون الاجتماعية، فى حالة عدم الاستدلال على ذويهم لاستلامهم، وقد تم بالفعل إيداع بعض من المرضى المسنين، الذين استقرت حالاتهم فى درا الهدايا لراعية المسنين، ويتم توجيه زيارة طبية دورية من المستشفى، مع صرف العلاج اللازم لاستقرار الحالة من المستشفى، مشيرا إلى أن المستشفى تقبل حجز المريض فى حالة ما إذا كان يمثل خطورة على نفسه أو المحيطين به، أما الأمراض النفسية مثل القلق والتوتر يتم معالجتها من خلال العيادة الخارجية التابعة للمستشفى.
جلسات التعذيب
وحول التطور فى علاج الأمراض النفسية والعقلية قال مدير مستشفى المعمورة للطب النفسى: «إن علاج الأمراض النفسية والعقلية شهد طفرة كبيرة، خاصة فى توعية العلاج وانخفاض الأعراض الجانبية، والتركيز فى العلاج على المخ للحصول على أفضل نتيجة فى العلاج»، مشيرا إلى أن مصر تحرص على تطوير علاج الأمراض النفسية بصفة مستمرة وفق المستجدات العالمية فى هذا المجال، مستنكرا الصورة الخاطئة، التى تم تصدريها للمجتمع حول العلاج بالصدمات الكهربائية من خلال بعض الأفلام السينمائية، التى شوهت العلاج بالكهرباء، مؤكدا أن العلاج بالصدمات الكهربائية يطلق علية علميا مصطلح «تنظيم إيقاع المخ « ويعتبر من أفضل طرق علاج المرض العقلى، وهو ما يجعله يتصدر قائمة العلاج، حيث يعتمد على توجيه الذبذبات للمخ لتحفيز خلاياه على العمل بشكل طبيعى، بعد تخدير المريض، الذى لا يشعر بشىء على الإطلاق، على عكس ما يتم تصويره فى السينما على أنها جلسات عذاب، مستنكرا نظرة المجتمع إلى المرض النفسى على أنه وصمة عار فى المجتمع المصرى، مشيرا إلى أن بعض الأسر مازالت تتنكر لإصابة أحد أفرادها بالمرض النفسى، ويتجهون لعلاجه عن طريق الدجل والشعوذة، مما يؤدى إلى تدهور حالة المريض.
يعد قسم التأهيل من أهم أقسام مستشفى المعمورة للطب النفسى، حيث تم تأسيسه منذ عام واحد فقط، إلا أنه استطاع أن يقدم أنشطة هامة للمرضى، ساعدتهم على التأهل والعودة للمجتمع مرة أخرى، وتقول الدكتورة غادة شكرى، رئيس قسم التأهيل بالمستشفى، إن القسم يستضيف المرضى بشكل يومى، ويبدأ النشاط بالتعارف، ثم بعض الألعاب الرياضية الخفيفة للتنشيط، وتعليم أسس النظافة الشخصية بسبب شكوى الأهل المستمرة من إهمال المريض لنفسه، بالإضافة إلى تعليم السيدات كيفية وضع «الميكاج» بالكامل وبطريقة منسقة وطبيعية، حيث يتم توفير الأدوات اللازمة من خلال تبرعات الطبيبات وفريق العمل الطبى والاجتماعى بالقسم، بالإضافة إلى نشاط تعليم الطهى.
وتضيف الدكتورة غادة شكرى، أن أنشطة القسم تتضمن تنظيم مجموعة للقراءة بالاستعانة بمكتبة المستشفى، لتنشيط الوظائف المعرفية وربط المريض بالأحداث الخارجية بالمجتمع، بالإضافة إلى العلاج بالفن من خلال التلوين والرسم الحر، الذى يكشف حقيقة المرض النفسى داخل المريض، مشيرة إلى أن نسبة التعافى فى القسم وصلت إلى نحو 60%، وأن هناك بعض الحالات خرجت إلى المجتمع ويمارسون عملهم بطريقة طبيعية مع المتابعة المستمرة بشكل دورى، بالإضافة إلى الاستعانة بهم كمشرفين على باقى المرضى، مستنكرة رفض المجتمع للمريض النفسى بعد خروجه، مما يتسبب حدوث انتكاسة للمريض وعودتة للمستشفى.
نفسى أكون ضابط
وتقول إحدى المريضات المترددات على قسم التأهيل، وتدعى «رشا»، والتى تعانى من اضطراب وجدانى: أنا لدى طموح كبير، فأنا اسمى رشا عبدالمغيث، واسم رشا يعنى المياه الغزيرة دليل النظافة، وعبد المغيث تعنى إعانة الله للإنسان، ونفسى أبقى ظابط، من هول من سمعت من قصص الظلم، التى تعرضت لها زميلاتى فى العنبر، والصدمات التى أدت إلى تواجدهن داخل المستشفى فى النهاية، كما أننى أبكى على عمرى الذى ضاع، فعمرى 30 عاماً ولم أحقق شيئا فى حياتى، وكان نفسى أتزوج مبكرا، وأتمنى أن أتعلم وأعمل فى مجال الخياطة والتطريز بعد خروجى من المستشفى».
ويقول بسام، 33 عاماً ويعانى من اكتئاب ذهانى : أتردد على المستشفى منذ 10 سنوات، وظروفى الاجتماعية أوصلتنى إلى هنا، أمى انفصلت عن أبى وأنا صغير وكل منهما تزوج وأنجب وتولت جدتى تربيتى، وعانت معى كثيرا، ورفضت الزواج نهائيا خوفا على ظلم أى شريكة لى، فقد فقدت الأمل فى الحياة، وزعلان لأنى لم أحقق أحلامى، إخوتى غير الأشقاء استكملوا تعليمهم، وأنا حرمت من التعليم، وأكثر شىء مزعلنى هو عدم استطاعتى تحقيق أحلامى منهم لله أهلى».
علاج الإدمان
ويقول الدكتور شريف درويش، مدير مركز الإدمان بمستشفى المعمورة، إن مركز علاج الإدمان التابع بالمستشفى يعد أحد أهم مراكز علاج الإدمان فى مصر، التى تقدم برنامجا تأهيليا متكاملا للعلاج، حيث يحتوى على 70 سريرا، 20 منها لإزالة السموم ومتابعة أعراض الانسحاب، و50 سريرا بالقسم التأهيلى، ويقوم برنامج التأهيل على التعديل السلوكى ومواجهة الظروف الاجتماعية، وضبط المشاعر من خلال الضبط الوجدانى، بالإضافة إلى البعد الروحانى، حيث يمر المريض بعدة مراحل لإعادة مرحلة الوعى، ثم التغيير، ثم التدريب، وأخيرًا التعافى، التى تصل إلى نحو 60%، ويتم قياسها على مدار عام كامل من التوقف عن التعاطى.
وحول قصص النجاح فى التعافى من مرض الإدمان، التقى «اليوم السابع» بعدد من المرضى المتعافين، والذين أقلعوا عن التعاطى، ويعملون حاليا مشرفين بالمركز لمساعدة الآخرين، حيث يقول «ممدوح. م »: أدمنت كل أنواع المخدرات منذ عام 1990، وحاولت الإقلاع عن الإدمان عام 1995 بعد وفاة والدى بعد شعورى بأنى السبب فى وفاته، ولكنى فشلت، وفى عام 1999 بدأت التردد على مركز الإدمان بمستشفى المعمورة، وبدأت فى الالتزام بالبرنامج التأهيلى للمركز، وحقق نجاحا كبيرا معى، واستطعت أخيرا الإقلاع عن تناول المخدرات، وأعمل حاليا كمشرف بالمركز لمساعدة الآخرين.
أما «أحمد. ال» فيؤكد، أنه أدمن المخدرات منذ أن كان فى المرحلة الابتدائية، نتيجة البيئة، التى تربى بها، والتى كانت تسمح بذلك، حيث كان يعتبر تعاطى الحشيش شيئا عاديا، وأشار إلى أنه تدرج فى التعاطى إلى أن وصل إلى تعاطى كل الأنواع، وبدأت حياته فى الانهيار والفشل وعدم القدرة على العمل، مشيرا إلى أن إيحاءات القوة والشجاعة، التى يعتقد البعض أنه يحصل عليها بعد التعاطى للمخدر هى وهم كبير وغير حقيقيه.
وأكد «عبد الحميد» أنه تعافى عن تعاطى المخدرات منذ 6 سنوات ويعمل ضمن الفريق المعالج بالمركز حاليا، أنه اتخذ قرار الإقلاع بعد أن وجد نفسه وحيدا، وكان يخشى أن يموت وحيدا دون أن يشعر به أحد خلال التعاطى، مشيرا إلى أن أهم عقبة تواجه المدمن فى العلاج هو الإنكار بأنه يعانى من مشكلة حقيقية، مؤكدا أنه عليه أن يواجه الحقيقة ويتجه للعلاج.
\
أنشطة عملية وترفيهية
كما يضم مستشفى المعمورة للطب النفسى، أقساما متعددة للأنشطة العملية والترفيهية للمرضى، حيث يوجد ورشة لتعليم المشغولات اليدوية والنسيج والسجاد والتريكو، ويقول محمد عبد النبى، مدير مركز الأشغال اليدوية، إن القسم يضم التدريب على أعمال الأشغال اليدوية والتريكو والكنافة والمشغولات اليدوية والسجاد، ويتم التعاقد مع المرضى بعقود شهرية بأجر رمزى بقيمة 4 جنيهات فى اليوم، حيث يبدأ العمل من 9 صباحا وحتى الواحدة ظهرا، ويتم عرض المنتجات فى معرض للبيع واستخدام العائد فى شراء أدوات للمشغل.
كما يضم مستشفى المعمورة أيضا مكتبة خاصة للمرضى، لممارسة أنشطة القراءة، وتحمل المكتبة على جدرانها اللوحات، التى قام المرضى برسمها بأنفسهم، وتعبر عن مشاعرهم الداخلية، أو طبيعة المرض النفسى والعقلى، الذى يعانون منه، بالإضافة إلى تعلم إعداد أبحاث وطريقة عرضه.. وتقول عزيزة محمد، مديرة المكتبة: «إن المكتبة تستقبل المرضى من العنبر خلال فترات النشاط للقراءة من 9 إلى 12 صباحا يوميا، بالإضافة إلى تنظيم ندوات ثقافية وعرض أفلام هادفة.