إذا لما تكن قرأت حتى الأن لأشرف العشماوي فقد فاتك الكثير، فالعشماوي حكاء ماهر لديه قدرة فائقة على جذبك من الصفحة الأولى ، يجيد دهشة البدايات وحبكة الروايات ويفاجئك بنهايات مفتوحة فى كل رواياته ، يرسم شخصياته باقتدار ويمنحها حيوية فتراها أمامك تتحرك وتتحاور من فرط حرفية صنعها ، ظهر أشرف العشماوي فجأة بالوسط الأدبي نهاية 2010 مقدما نفسه كروائي دون أية مقدمات ، ورغم العشماوي لم يكن غريبا عن الاعلام بل بالعكس كان شهيرا كمحقق جنائي عتيد على مدار عشرين عاما أو يزيد حقق فى أغلب جرائم الرأي العام فى الفساد والارهاب والجاسوسية وغيرها من الجرائم الجنائية العادية ، وكان ضيف دائم على صفحات الحوادث ومن بعدها ذاع صيته وانتشر بنجاحاته فى استرداد آلاف القطع الاثرية من الخارج عبر مفاوضات قانونية ودبلوماسية أثناء فترة انتدابه مستشارا لهيئة الآثار المصرية ، لكنه قدم لنا نفسه بوجه جديد هو الروائي أشرف العشماوي مبتعدا تماما عن وظيفته وعن حكايات الجرائم التقليدية ، ليقدم حكايات اجتماعية مصبوغة بالسياسة ومحبوكة دراميا بقوة ليعيد اكتشاف نفسه من جديدة ، وبعد عام واحد من نشر روايته الاولى زمن الضباع ، فاجئ الجميع بوصوله لقائمة البوكر العربية لافضل الروايات بروايته تــويا ثم حصد جائزة أفضل رواية عربية عام 2014 برواية البارمان ، ليتربع من وقتها على قائمة الأكثر مبيعا فى مصر وبعض البلدان العربية مع قامات اخرى فى الرواية مثل واسيني أعرج وسعود السنعوسي وأحلام مستغامني وعلاء الأسواني والدكتور يوسف زيدان وغيرهم من كبار الكتاب الأكثر جماهيرية مع الحفاظ على القيمة الأدبية فى ذات الوقت . صدرت للعشماوي ستة روايات حتى الأن عن الدار المصرية اللبنانية التى تتولى طباعة ونشر وتوزيع كافة أعماله ، وقد ترجم بعضها إلى اللغات الفرنسية والصربية والألمانية وبيعت حقوق تحويلها لأعمال درامية و ربما أشهرها العقد المبرم مع المخرج الكبير علي بدرخان الذى قام باعداد المعالجة الدرامية لرواية المرشد تمهيدا لعرضها عام 2017
فى روايته الأخيرة تذكرة وحيدة للقاهرة والتي حققت توزيعا لافتا وحضورا مهما فقد كتب عنها كبار النقاد مثل الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة الاسبق الذى اختصها بثلاث مقالات بجريدة الاهرام ، والدكتور صلاح فضل فى جريدة المصري اليوم والذى ادار لها حلقة نقاشية كبيرة وايضا الدكتور خالد منتصر بجريدة الوطن والروائي مكاوي سعيد والروائي هشام الخشن ،واحتفت بها الصفحات الثقافية بجرائد الاهرام واخبار اليوم والحياة اللندنية والمصري اليوم واليوم السابع والشرق الاوسط
تتجلى قدرة العشماوي على الحكي فى تلك الرواية التي تدور حول معاناة نوبي من الغربة ثم الاغتراب داخل القاهرة وخارجها لما تضطره الظروف للعمل بنادي الجزيرة منتصف الأربعينات ثم بداية الخمسينات مرورا بهروبه للاسكندرية فى الستينات وبعدها الاقامة فى سويسرا فترة السبعينيات ، لنكتشف أن كلنا مثل بطل الرواية مهمشون طالما لا نملك تحديد مصيرنا ويفاجئنا الكاتب بنهاية غير متوقعة أخر الرواية المشوقة مع أنها حكاية عن شخص عادي لكنها أيضا حكاية غير عادية ، هي واحدة من روايات تيار الوعي المكتوبة باقتدار وبحساب وبتشويق عال للغاية وتحمل بين طياتها ذاكرة قومية مهمة ، بتلك الكلمات قدمت الناقدة نانسي ابراهيم استاذ الادب العربي رواية تذكرة وحيدة للقاهرة بندوة الجامعة الامريكية التى عقدت حول الرواية فى سبتمبر الماضي بحضور ابناء النوبة الذين حرصوا على سؤال العشماوي عن تفصيلات كثيرة واعربوا عن اعجابهم برواية تصور حالهم من كاتب غير نوبي لأول مرة فى تاريخهم استطاع فيها نقل معانتهم فى التهدير ثم الاغتراب بالمجتمع.
فى تلك الرواية توغل العشماوى فى متاهة السرد بببراعة ،وتجاوز حدود الهواية المغوية ومارس الاحتراف المتمكن عبر شبكة عنكبوتية معقدة من الأحداث والتفاصيل والمؤامرات، أجاد حبكها بنفس طويل ودأب شديد وقدرة هائلة على الحل والعقد والتلاعب بالأقدار والمصائر والمفاجآت المذهلة فى التنقل بين الأوساط الاجتماعية والثقافية المتناقضة من أقصى حالات العوز والحاجة الخاصة إلى أشد مظاهر الرخاء والرفاهية. يمكننا القول باختصار ان تذكرة وحيدة للقاهرة رواية تعيدنا لزمن القاهرة الجميل في الأربعينيات والخمسينيات بأسلوب أدبي جميل وسرد سلس مع تشويق عال حتى الصفحة الأخيرة من كاتب يملك أدوات الحكي والتشويق باقتدار وبراعة .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة