بعد نهار كامل من التدريبات الشاقة، شد الأعصاب والتوتر وشحذ الهمم وأحلام عن يوم العبور والنصر، يجلسون أخيرًا إلى أوراقهم، يخلع كل منهم زى المحارب عن نفسه ويعود مع الخطابات التى يكتبها بخط يده، أبًا وأخًا وابنًا وصديقًا وأحيانًا عاشقًا لخطيبة جميلة تنتظر عودته منتصرًا بفارغ الصبر ليتم المراد ويحتفلا بالزفاف السعيد.
جانب من خطابات أحد شهداء حرب أكتوبر
فى المقابل، وعلى بعد عشرات وأحيانًا مئات الكيلومترات عن الجبهة يظل البيت ساكنًا، يمارس أهله طقوس حياتهم اليومية بشكل عادى لأن الحياة يجب أن تستمر، ولكن قلب الجميع هناك على الجبهة مع الابن أو الأب أو الزوج المقاتل، يصل الخطاب أخيرًا بعد رحلة شاقة طويلة وبعد أن تلقفته عشرات الأيادى، ليطمئن قلوبهم الملهوفة ولو بكلمة من البطل الغائب.
"تسلم إلى يد الشهيد أحمد محمد جعفر"
كل هذه التفاصيل والمشاعر والحكايات تختزلها عشرات الخطابات التى يزيد عمرها عن 43 عامًا كانت ضمن متعلقات أحد شهداء حرب أكتوبر المجيدة، المقاتل أحمد محمد جعفر بالوحدة 683.
الخطابات التى يحمل بعضها بضع قطرات من دمه وتحمل الكثير من المشاعر والتفاصيل التى عاشها قبل أسابيع وأيام من استشهاده، وتتنوع بين خطابات الأهل المفعمة بالحميمية واللوعة أيضًا الممتزجة بالاحترام والتقدير للابن البطل، والأخرى من أصدقائه المقاتلين الذين جمعتهم الصداقة قبل أن يتفرقوا فى وحدات الجيش المختلفة وربما لم يروا بعضهم البعض بعدها للأبد.
خطابات الأهل.. سلامات وأشواق ودعوات بالنصر
بين الحروف المنمقة للآلة الكاتبة التى لا تكشف ارتجافة المشاعر أثناء الكتابة، والحروف العفوية اليدوية بالحبر الأزرق على الورقة تنوعت خطابات الأهل للابن البطل، تتزاحم عليها أسماء كل فرد فى العائلة الكبيرة، من الأصغر للأكبر، تطمئنه على استقرار الأحوال، على صحة الأب وحالة الأم وحتى على أبناء الأخوة الذين لم يتسن له الاستمتاع بصحبتهم طويلاً.
يحكون عن ملامح الأطفال التى تغيرت، وعن صحة الأب التى تتحسن فى كل مرة يصلهم خطاب منه وعن الفرحة التى تدخل البيت مع كل خطاب.
جانب من أحد خطابات الأهل لابنهم المقاتل
سلسلة الخطابات هذه التى تحمل آخر تفاصيل وتطورات الأحداث فى الأسرة، داخل مظروف يحمل فى كل مرة العبارة ذاتها "يسلم ليد المقاتل أحمد محمد جعفر دسوقى" اختتمت بخطاب أخير لم يسلم أبدًا ليد المقاتل، هذا الخطاب الأخير بعد نصر أكتوبر والذى يحكى فيه الأهل عن فرحتهم بـ"الانتصارات الرائعة الباهرة ضد أعداء الله والوطن".
وعن آخر خطاب أرسله الشهيد لأهله إلى المنزل، واستقبلوه "بالأفراح وكان الجواب مكتوب عليه النصر، ومن قراءة الجواب عرفنا مدى انتصارتكم العظيم التى سيتحدث عنها كل مواطن على ظهر الدنيا والبشرية أجمع"، وعن فرحة الأب بالانتصار واطمئنانه على ابنه البطل، وكذلك الأم التى لا ينقصها إلا رؤياه.
خطاب أرسل بعد استشهاد المقاتل
هذا الخطاب الذى لم يسلم له أبدًا كتب بعد استشهاد المقاتل أحمد جعفر، فى الأيام التالية للعبور، وعاد مجددًا إلى الراسل ضمن ما تبقى من أغراضه، محفظة اخترقتها الرصاصة الغادرة لتصل إلى القلب، وساعة وعشرات الخطابات التى تحمل الكثير من التفاصيل والمشاعر.
خطابات المقاتلين.. ذكريات وأغان وأحلام وشحذ همم
على عكس خطابات الأهل التى تشوبها مسحة من الحزن أو ربما الشوق واللوعة إلى الابن الغائب، اتسمت خطابات المقاتلين لبعضهم البعض بروح أكثر خفة.
وعلى عكس خطابات الأهل أيضًا التى لا تحمل إلا السلامات والأشواق تأتى خطابات الأصدقاء مليئة بالأسرار والتفاصيل والحكايات عن أيام مضت عرفوا فيها بعضهم شبابًا مقبلين على الحياة، لديهم أحلامًا وخطط، ومليئة أيضًا بالأغنيات، الشبابية آنذاك، الأغنية الأخيرة لعبدالحليم أو مقطع من أغنية عن الشوق لأم كلثوم تأكل نصف صفحة الخطاب كاملة.
خطاب من مقاتل لزميله
ولا يخلو خطاب بين المقاتلين من الحماسة والتشجيع، يكتب أحدهم للآخر "أتمنى من الله أن تكون فى صحة جيدة وفى سعادة تامة، رجائى أن تمضى فى الفرقة بدرجة تفوق، وتطلع الأول، ودعائى صلواتى كلها لك ولإخوانك الأبطال.. والنصر المبين الذى سيتحقق على أيدينا جميعًا".
ثم ينحبس الكلام على أطراف اللسان عاجزًا عن التعبير كما يجب عما فى القلب فيكتب "و... الكلام كتير لكن أتمنى أن أراك فى أقرب فرصة"، ثم تذيل كل الخطابات بفخر بلقب "مقاتل" قبل اسمه كاملاً ثم رقم الوحدة.
خطاب من مقاتل إلى زميله
خطابات لم ترسل..
إلى جوار هذه الخطابات سكنت بضعة أوراق لم ترسل أبدًا، أوراق عليها اسم حبيبة الشهيد التى كان يستعد لخطبتها بعد عودته من الجبهة، اسمها مسبوقًا بلقب حبيبتى، وعلى ظهر الورقة، الوجه الآخر الذى فرضته الحرب، راجع بالخط الأحمر ما يعرفه عن تفاصيل وتكوين الدبابة.
خطابات عليها آثار الدماء
خطاب أرسل بعد استشهاد المقاتل
عدد الردود 0
بواسطة:
ابن محارب قديم
ابن محارب قديم
رحمهم الله كانوا جيل كله رجاله