صدر حديثا عن الهيئة العامة المصرية للكتاب، الديوان الحادى عشر للشاعر الكبير الدكتور علاء عبد الهادى، تحت عنوان "إيكاروس أو فى تدبير العتمة"، ويتوج هذا العمل بما يضمه من استشرافات جمالية جديدة على القصيدة العربية، ما يقرب من 40 عاما فى تجربة الشاعر، يقوم الديوان على فكرة أساسية هى الحكاية الشعرية المرتبطة "باليوميات"، اختار منها الكاتب يوميات تاريخية من ثورة 25 يناير.
الديوان مقسم إلى ثلاثة أجزاء، وبداية ونهاية، البداية قصيدة (المطارد) بكسر الراء، والنهاية قصيدة (المطارد) بفتح الراء، وتأتى الثانية بصفتها نبوءة! وبين القصيدتين تتوزع فضاءات النصوص على ثلاثة أجزاء، الأول عنوانه (حكاياتُ العطبِ ومواريثُ السقوط)، وفيه قصائد ترتبط بحكم مبارك، ومفارقات ثلاثين عاما من التحولات، والأحداث الأليمة، والجزء الثانى من الديوان عنوانه (حكاياتُ الثورةِ والعاشقين)، ويطرح أحداثَ الثورة وأهمّ محطاتها من وجهة نظر شعرية، والجزء الثالث عنوانه (حكايات الصيد والحيوان)، ويقدم الشاعر فى هذا الجزء إسقاطات قوية بين صفات الإنسان والحيوان، وطباعهما، متسللاً بهذه الطباع والأمزجة بإسقاطاتها إلى صفات البشر وأحداث ميدان التحرير إبان أحداث الثورة.
كما يضم هذا الجزء قصائد بأسماء تراثية للغراب (ابن بريح)، والأسد (أبو الحارِث)، والثعلب (أبو الحُصَيْن)، والضبع (أمّ عامِر)، والذئب (أبو جَعْدَة)، فضلا عن قصيدة عن النداهة (مصر)، والإنسان المصرى (المِدْيان) بما له وما عليه.
ويقع الديوان فى "264" صفحة، والغلاف من تصميم الشاعر، وتغلب على الغلاف عتمة اللون الأسود، وفى وسط هذا السواد يبرز جناحا إيكاروس وخلفهما الشمس، التصميم دال على عنوان الديوان (إيكاروس؛ أو فى تدبير العتمة)، ويستدعى الشاعر فى هذا العنوان أسطورة (إيكاروس) القديمة الذى أراد أن يقترب من (الشمس)، فصنع جناحين هائلين كى يستطيع الطيران، وثبتهما بالشمع، وبدأ الطيران حتى عشقَ الاقترابَ، ارتفع محلقًا مقتربًا من الشمس/ الحقيقة! وكان كلما اقترب أكثر، ذاب الشمع أكثر حتى سقط صريعًا بعد أن أذابت الشمس شمعَ جناحيه! فقد كان هناك –وإيكاروس مشغولا بالحقيقة فى مقام العشق- من يدبرون عتمة بسعة الفضاء كما يقول الشاعر فى إهدائه إلى حبيبته المُنَى, (كانتِ المجموعةُ مهداةً إلى صاحبةِ الاسمِ, لَكنّها لَمْ تَحفَظْ أُخوةَ الدّمِ, وَلمْ تَستحقْ نَزْفَ المرحِ وَالعِشقِ على عَوْراتِ الحروف, ومعَ تَكْرارِ الفِراقِ, نَبَتَ "إيكاروس" طَائِرًا إلى الشّمسِ الّتِى اِستَتَرَت بِنُورِها, وَلَمْ يَعرِفْها إلا مَن عَرَفَ حِجَابَها المضواءَ, وأشرفَ على الكَشف, هكذَا كُنّا, أمّا هُم فَكانوا ونحنُ فى مُقامِ العِشقِ, يُدِيرونَ عَتَمَةً.. بسعةِ الفَضاء!).
ويتحدث الشاعر/ الراوية بمجموعة من الأصوات تمثل أيقونات الربيع العربى فى مصر، وتونس، وسوريا، وليبيا، واليمن، وهم خالد سعيد، ومحمد البوعزيزى، وحمزة الخطيب، ومحمد بنوس، وأنس السعيدى، وغادة كمال، ومينا دانيال، وإسلام مسعود، ومحمد حسين نجم القرنى، وعلاء عبد الهادي!
تبدأ كل قصيدة فى الديوان بكلمة (كان) أو (كانت) وكأنها دلالة على فعل الحكى أكثر من كونها دلالة على الزمن. وتحت عنوان كل قصيدة حكمةٌ ما, تفصح عن عقيدة الشاعر ومفهومه للشعر, وفلسفته الجمالية، بعد هذه التجربة الطويلة من الكتابة، وقبل الفهرس "فهرس" بصرى آخر أسماه الشاعر (روابط الحكايات)، ويتكون كل جزء من روابط بصرية لأحداث مهمة فى تاريخ مصر، معظمها لوقائع الثورة ويومياتها، تقوم بربط الأجزاء والقصائد كلها معًا من خلال تعالق خاص مع مقاطع فيديو موجودة على الشبكة العنكبوتية، تعيد إنتاج الدلالة مرة أخرى ارتباطا بأحداث تاريخية، أو ثورية ارتبطت بتاريخ مصر المعاصر، وكأنه فهرس بصرى للنص، وعلى الحقيقة يصعب أن نقرأ هذا النص أو نفهمه من دونه.
ذكر الشاعر أنه كتب قصائد الديوان من أغسطس 2010 إلى ديسمبر 2012، ولهذه التواريخ دلالة مهمة فى التأويل. على مستوى الشكل الديوان مكتوب على شكل سردي, دون التقطيع المعتاد للنص الشعري, وهناك قصائد تفعيلة عديدة فى الديوان مكتوبة على الوتيرة السردية ذاتها. وجزء من قصيدة عمودية على بحر المضارع جاءت متداخلة مع قصيدة تفعيلية من بحر المتقارب فى قصيدة (حلاوة زمان: فى مؤاخذة اليقين). وهى قصيدة مركزية فى الديوان لارتباطها المباشر بفكرة اليوميات الشعرية بصفتها طريقة كتابة شعرية جديدة عن الثورة, وتتكون من أحد عشر مقطعًا, ويهديها الشاعر إلى "عمرو صلاح" بائع البطاطا الصغير الذى استشهد فى ميدان التحرير. العمل جديد فى ذوقه, مدهش فى بنيته ولغته، فريد فى شكله، ويعد مرحلة مهمة فى تجربة الشاعرالخاصة من جهة، وإضافة تجديدية مهمة للشعر العربى من جهة أخرى.
ومن قصائد الديوان القصيرة، قصيدة نثرية مباشرة وبسيطة عنوانها (رمادى أخضراللون) يقول فيها:
قَلْبُ الأَرْضِ أَسْوَد,
وَقَلْبُ الْبِذْرَةِ أَبْيَض,
بَيْنَ الاَسْوَدِ وَالأَبْيَضِ
منْطِقَةٌ خَضْرَاء!
ومن قصيدته (المسافة المطوقة) يقول فى حكمة القصيدة (فِى كُلِّ شَيءٍ, شِعْرٌ, لا يَكُفُّ عَنِ الصُّرَاخ, لَكِنَّنَا لانُحْسِنُ الإنْصَات):
قَدْ صِرْتِ فِى عَيْنَى نَجْمًا, يَجْتَوِى لا يَحْتَوِي, رُدّى عَلَى مَسَافَتِي, أَوْ كَسَّرِى قَيْدَ الْيَمَامِ وَمَا تَيَسَّرَ, كَى تَلُوصَ عُيُونُنَا.. كَالْحَرْفِ يَصْبُو.. كَالْكَلام. هَذَا اِبْنُ حَزْمٍ يَرْتَجـِى وَلَهًا, وَلَمْ تُعْطِيهِ فَوْقَ مُلَاءَتِى الْبَيْضَاءِ أَسْرَارَ الْعَرَافَة. هَذَا "الْمُحَلَّى" يَنْتَوِى قُرْبًا, وَلَمْ تُعْطِيهِ غَيْرَ تَحَفُّظٍ فِى الْقَوْلِ, أَوْ طَوْقَ الْمَسَافَة. وَالحُبُّ يَهْتَبـِلُ الشَّهِيقَ كَمَا يَشَاءْ, وَأنَا الْهَوِيُّ, العِشْقُ إِثْمُ مَشَاعِرِي, وَمَشَاعَرِى كَالطِّفْلِ- كَامِلَةٌ, تَمُدُّ الخَيْرَ مِنْ قَدَمِ الحُفَاةِ الجَائِعِينَ, وَلا تَخُون. لا تَسْتَقِيمُ عَلَى الْكَرَاهَةِ إِنْ أَحَبَّت. وَالْخَطْوُ خَلْفَ النَّاسِ يَنْتَظِرُ الطَّرِيق, لا تَقْرَئِى زَبَدِي, أَنَا مِثْلُ الْمَسَافَةِ نَافِعٌ فِى الأَرْضِ حِينًا, رُبَّمَا, لَكِنَّنَا لَا نَرْتَجـِى مِنْهَا الْبَقَاء.