«شاهد رجال البارجة البريطانية ما حدث أمام أعينهم، فتوقف قصف المدافع ورفع الكابتن «هامبلتون» قبعته ثم وضعها على رأسه مرة أخرى، وأصدر أوامره بالميكروفون إلى البارجة «نيوفاونولاند» والمدمرة «ديانا» لإطلاق جميع صافراتهما، وأن يقف الجميع «دقيقة صمت» تحية لبطل شجاع حافظ على الشرف العسكرى البحرى».
«البطل الشجاع» هو الضابط البحرى «الصاغ محمد شاكر حسين»، ووقت الحدث كان فى «مثل هذا اليوم 1 نوفمبر 1956» أى فى اليوم الثالث لبدء العدوان الثلاثى «إنجلترا وفرنسا وإسرائيل» على مصر بسبب قرار جمال عبدالناصر بتأميم قناة السويس يوم 26 يوليو 1956، والمناسبة كانت معركة بحرية غير متكافئة بين سفينة التدريب الحربية «دمياط» بقيادة بطلنا الضابط «محمد شاكر» وبعض قطع الأسطول البريطانى فى البحر المتوسط، وأبهرت بطولة «شاكر» القائد البريطانى، فأمر بـ«الدقيقة الصمت» حسب ما يذكره «يحيى الشاعر» فى كتابه «الوجه الآخر للميدالية - حرب السويس 1956 - أسرار المقاومة السرية فى بورسعيد» عن «طبعة إلكترونية»، ويكتب «الشاعر» شهادته من واقع أنه كان أحد القيادات السرية للمقاومة الشعبية فى بورسعيد ضد العدوان.
كان «شاكر» من خريجى أول دفعة بالكلية البحرية عام 1948 وولد فى محافظة «بنى سويف» عام 1929، أى كان يبلغ من العمر 27 عاماً فى حرب 1956، ورفض الزواج حتى يربى أشقاءه الصغار، لكن الأقدار كانت تحفظه لأن يكون أحد شهداء مصر الأبرار الذين تحفظهم سجلات التاريخ بحروف من النور.
بدأت القصة فى الساعة الرابعة بعد ظهر يوم 31 أكتوبر 1956، وحسب «عبده مباشر» فى كتابه «البحرية المصرية من محمد على إلى السادات» عن «الهيئة العامة للكتاب - القاهرة»، قامت الفرقاطة «دمياط» من ميناء الأدبية بمدينة السويس، متجهة جنوباً إلى «شرم الشيخ» للانضمام إلى الفرقاطة «رشيد» الموجودة هناك، وتعزيزاً للقوات البرية المصرية بالمنطقة ومساعدتها فى إغلاق مضيق تيران أمام سفن الأعداء، وعندما وصلت إلى حذاء فنار رأس غارب بسرعة 11 عقدة، ظهرت أمامها ثلاث سفن حربية تسير فى إظلام تام متجهة ناحيتها، وكانت هذه القطع هى الطراد البريطانى «نيوفونلاند» ومعه مدمرتان بريطانيتان، وأرسلوا إشارة ضوئية إلى «دمياط» تأمرها بالوقوف، فردت عليها الفرقاطة تسألها عمن تكون، عندئذ اقترب الطراد منها، وتحركت إحدى المدمرتين لتكون خلفها، وأخرى إلى ناحيتها اليسرى، وكرر الطراد إشارته الضوئية بالوقوف، لكن الضابط «شاكر» زاد من سرعته إلى 18 عقدة مستمراً فى السير جنوباً.
يوضح «مباشر» أن الفرقاطة «دمياط» كانت مستعملة أصلاً كسفينة تدريبات تابعة للكلية البحرية، وبالتالى كان تسليحها لهذا الغرض فقط ويقتصر على مدفع واحد 4 بوصات بالمقدم، وفور قيام الطراد بتوجيه أضوائه الكاشفة نحوها وعلى مسافة 300 ياردة، بدأت «دمياط» المعركة بإطلاق طلقتين متتابعتين من المدفع، فرد الطراد بإطلاق مدافعه التسعة من عيار 6 بوصات، فأصابت ثلاثة منها مخزن البويات بمقدم «دمياط» بالإضافة إلى إصابات أخرى متفرقة، لكن الضابط «شاكر» صمم على المضى قدماً فى القتال يسانده حماس الذين معه رافضين تحقيق رغبة الاستسلام بتسليم الفرقاطة بسهولة.
استمرت «دمياط» فى مقاومتها بالرغم من إصابتها، حتى أصيبت مرة أخرى بقذائف السفن البريطانية فتعطل مدفعها وتوقفت المولدات الكهربائية وتحطمت غرفة اللاسلكى وأظلمت السفينة ولكن سرعتها لم تتأثر، وظل كل فرد فيها فى مركزه يقوم بدوره فى ثبات كامل، ولما لم يجد الضابط «محمد شاكر حسين» سلاحاً يحارب به ووجد الطراد البريطانى قاب قوسين منه أو أدنى، فكر فى نطحه بسفينته حتى يغرقا معاً، وفى شجاعة وتصميم أدار السفينة لتنفيذ خطته، لكن قائد الطراد البريطانى فطن لها ففتح نيران جميع مدفعيته دفعة واحدة، مما أدى بـ«دمياط» إلى أن تميل، وتبدأ فى الغرق، فأمر البطل شاكر رجالها بمغادرة السفينة وبدأ بإجلاء الجرحى إلى العوامات وبقى هو ومعه ضابطه الأول اليوزباشى وجدى فوق السطح العلوى للسفينة يشرفان على نزول جميع الأفراد ويأمرونهم بسرعة الابتعاد عن حطامها.
ألح ضباط السفينة وجنودها على البطلين «شاكر» و«وجدى» أن يغادرا السفينة، لكنهما رفضا، وغرقا معها وهما يودعان رفاقهما فى الدقيقة 25 بعد الساعة الثانية عشرة صباح مثل هذا اليوم «1 نوفمبر 1956».
العدد اليومى