رشيدة الركيك تكتب: حوار مع الذات "5"

الأربعاء، 02 نوفمبر 2016 08:00 م
رشيدة الركيك تكتب: حوار مع الذات "5" شخص يفكر

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

أتذكر فى صمت الخشوع بنوع من التأمل والاستقراء للأحداث، أعود لأعيش الوقائع من جديد فى زمن غير الزمان وفى مكان غير المكان.

 بالذاكرة أستحضر الصور والأصوات والأحاسيس فى غياب الوجود الواقعى لها، أستحضرها بداخل ذاتى، فهى تفكيرى المصحوب بإحساسى، تفكيرى الذى يرافقنى فى نوستالجيا فريدة ممتعة.

تسبح الذات فيه من جديد بتصويرها الواقعى واللاواقعى لما مضى ولم يعد : هو تصوير واقعى لأنه يكتسب دلالته فى الماضى، غير أنه أيضا لا واقعى لأنه لا علاقة له بالحاضر سوى فى ارتباطه بالذات والذاكرة .

لكل بلد تاريخ وهو تاريخ الإنسان فى حقيقته، ولكل ذات تاريخها كما تفهمه تعيشه ومن أى زاوية تراه تتحدث عنه، فالذاكرة إذن هى تاريخ الذات. فهل فكرتنا عن ماضينا تعكس حقيقتنا أو حقيقته؟ أم أن الفكر هو تلك الحقيقة التى نلبسها بذوقنا ويعكس ذواتنا بنوع من التفرد بحيث من المستحيل أن يشاركنى الآخرون إحساساتى بذكرياتى ؟ أم أن الجانب النوستالجى فى الإنسان له مساحة تأخذ بعين الاعتبار تفاعل الإنسان مع الأحداث و تقييمه لها؟

لا شك أننا مخلوقات زمنية إذن، لها القدرة على تذكر الماضى و استحضاره فى الحاضر بل إنها تهاب

المستقبل بسببه. نحن كائنات تتخبط فى أزمنة تتداخل على مستوى الفكر، لتعيش الزمن وينظم حياتها باعتباره دائما ما كان وما هو كائن وما سيكون.

يتشكل الزمن كحبات السبحة كما يقال أو كتيار يتحرك باستمرار و كأننا لا يمكن أن نعيشه مرتين،

 بل لا نستطيع أن نفصل الأحداث عن بعضها، وأن الوعى عليه أن يسير بشكل ملازم للحاضر،

 بل إنه لا يحمل أية دلالة بعيدا عن الزمن.

يبدو إذن أن حياتنا فيلما سينمائيا بطلها ذاتى وسط ذوات أخرى، والحديث عن ذكرياتها فيه نوع من التشغيل لعملية التصوير السينمائى الداخلي، تتكرر فيها المشاهد بصور شتى مع أشخاص آخرين و تبقى دائما ذاتى بطلة حقيقية واقعية لفيلم حياتي، تلعب فيه الحواس دورا أساسيا، و تبقى كل ذات هى موضوع لهذا الفيلم، و كل لحظة من لحظات وجودها تسجل فى كتاب محفوظ تتقادم أحداثه و لكن نرى بصماتها واضحة فى كل فعل.

يجرى الزمن دائما، وبالذاكرة تتوقف الأحداث، لعلنا نستقى منها ما نريد من لحظات الحنين بنوع من اللذة وكأننا خلقنا لنعيش الماضى من جديد على مستوى المخيلة، و نوطد علاقتنا بذواتنا من خلالها،

 ونتمتع فى استرخاء وتأمل، لكوننا نستطيع تذكر الأشياء فى غيابها، بمجرد أن أقول:

فى هذا المكان وفى هذا التاريخ ترافقنى المشاهد بشكل منظم ومرتب...فى نوع من الإدراك الحسي، نوع من الوعى فى صورته الاختبارية يكون فيه الشعور مصحوبا بإحساس إنساني، ولم لا وقد وهبت الذاكرة بقدرة تستطيع تخزين ثلاثة مئة آلاف السنين من الصور...

إنه إذن نوع من الوجود المختلف تستطيع الذوات الإنسانية التميز بصيغة فريدة من التمرد على العالم الكرونولوجى وعلى الحاضر. فالذاكرة إذن آلة السفر عبر الزمن تمتلكها الذات لتختصر السنين

 و الأحداث فى لحظات فقط، ثم تعود لتعيش الواقع كما هو، ملزمة بالعودة إلى الحاضر لأنه ينتظرها لتعيشه، و ليصبح بدوره فى خبر كان لنسافر به عبر الزمن من جديد.

تتذكر الذات فتتكلم مع الماضى وعنه بنوع من الحنين اللا مفقود كما عودتنا الذاكرة وبشكل أبدي، وإن كانت معرضة للإتلاف والشيخوخة فتشيخ وتهرم، عندها تتخبط الذات فى نوع من الضياع ليستمر الحاضر بدون ماضى يعطى معنى للوجود.

يبدو إذن كلما ارتبطت الذات بالذاكرة شعرت بنوع من الاستمرارية والتناغم مع نفسها بشكل متزن، بل تسمح باسمترارية الوعى لما تخلق من اتصال عبر الزمن، فأكون أنا أنا كأساس لكل هوية وإن تغير شكلى بفعل السنين لكن هويتى هو ما حافظت عليه الذاكرة لأتطابق مع نفسي، فقراراتى اليوم حصيلة لما مضى عبر السنين وهى الحاملة لكل معنى ....

 ليس كل ماض جميل، بل أن كل ذكرى جميلة من خلالها تستحضر الذات كل مقوماتها بنوع من الفخر تبدو أثناءها ملامح العيون براقة من شدة الفرح.

الذاكرة إذن هى الشاهد على أن الذات عاشت و تعيش وتستمر فى العيش، فكل خلل فيها أو تلف يؤدى إلى فقدان التوازن فى هويتها. ولا شك أننا نفتخر بتأليف مجلدات عن ذكرياتنا وكأنه عالم يستحق أن يتقاسم و أن يعرفه الآخر، فندعو من خلال كتاباتنا وكلماتنا لتفقد هذا الفقيد بتعابير لها وقع سحرى تسرد أحداثا يعاد صياغتها بمنطق الحاضر وزمن اليوم ولغة اليوم.

فتحكى بعض النساء فى بلدنا عن فترة ظهور التلفاز وعن خوفهن من هذا الغريب لتلقبه بصندوق العجب، تحمل ذاكرتهن الكثير عنه كثقافة جديدة شكلت مصدر خوف، فيرتدين خمارهن عندما يتم تشغيله على اعتبار أن الغرباء دخلوا البيت، هو حنين إذن يعكس جمالية الماضى بالنسبة للذات، واعتراف لها به ...

هى أحداث تحكى عن حقائق معاشة وعن إحساسات الذات بعقلية زمنها بنوع من الاستقراء لحالها الذى مضى.

نعلن بصوتنا اليوم للزمن: لماذا تشكل جزءا من هويتنا؟ وهل سيكون للحياتنا معنى بدونك؟

نعود لنكرر القول نحن كائنات زمنية، نسافر للماضى ونحن نعرف أننا لا نستطيع أن نغير فيه شيئا، ونستحضره فى الحاضر مع أنه قد يكون سبب مخاوفنا وقلقنا من المستقبل.

طفولتنا جزء من ذواتنا و حنيننا لطفولتنا هو حنين للماضي، ويكون دائما هو القريب البعيد الذى نتناوله بحب و استلطاف.

شبابنا قوتنا استهتارنا تسرعنا فى جل لحظاته، وبخطوط عريضة نتكلم عنه وعن أخطائه وزلاته، وقد نضحك من أنفسنا فى الكثير من الأحيان و نشرح ما كنا نعتقده، بل إننا لا نتذكر الأحداث فقط منعزلة إنما أيضا فى سياقها العام و الظرفية التى تجعلنا نقوم بذلك الفعل فنلتمس الأعذار لأنفسنا.

لذلك تتمسك الذات بالذاكرة و تجعلها جزءا لا يجزأ من هويتها، هى آلة سفرها المحقق عبر الزمن وبرخصة منها طبعا وبقدرتها تلك على التصور و بدون جواز سفر أو ثمن لتذكرة وفى لحظات وجيزة.

فشكرا لكل مخيلة ألهمتنى القدرة على تراص الصورة فى ذهنى من جديد لأرى الأموات واسمع نبرات صوتهم، ومع أن الذات تقف عاجزة عن التغيير فى الحاضر لتقول معبرة بحسرة مقبولة: لو أننى استطعت أن أفعل كذا وكذا...

وفى مقابل الماضى تعيش ذواتنا نوعا آخرا من الزمن هو الحاضر، تعيشه و تتحرك فيه وتصنع الأحداث من جديد وتبنيها وفقا لنماذج من الماضى، مستعدة لزمن لاحق ولمستقبل يمكن أن تعيشه.

فعجبا لك أيتها الذات ومن تأرجحك، بين ماض ولى ولم يعد وبين حاضر أنت فاعلة فيه و مستقبل عليك أن تستعدى له. فلماذا لا أحاورك وأنت ملهمتي، تحاورى نفسك و تاريخك بنوع من الحنين دائما توثقى لنفسك عبر الذاكرة لأزمنة تلاحقك؟.

لذلك سيستمر الحوار معك دائما بنوع من الخشوع والهدوء والتأمل لعلنا نخرج من أعماقنا ونفهم ذواتنا ونستطيع تأويلها و التصالح معها دون انقطاع و دون أية محاولة لتفسيرها و الوقوف عن الحتمية فى سلوكياتها .










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة