فى ظرف طبيعى وموضوعى، غير ما أوصلنا له الفاعلون الثقافيون وأباطرة الساحة الأدبية فى مصر، كان من المفترض أن نكون الآن على قارعة الطريق، وفى المحافل والمنتديات والمنصات الإعلامية، نرتل آيات الثناء ونتبادل عبارات التهنئة والابتهاج، بينما تفصلنا ساعات عن افتتاح الدورة الرابعة لملتقى القاهرة الدولى للشعر العربى، بدلاً من اضطرارنا لإنفاق حصة من الوقت والجهد واللغة، وتعداد الشواهد والقرائن ووسوم الشبهات، لنقد ما كان يستوجب المديح، وتعرية ما كان منذورًا للنور والعلن، فقط فى ظرف صحى وموضوعى لا تُطبخ فيه الطبخة بليل، ولا يتقاسم فيه الخلّان كعكة الشعر كما يتقاسمون كعكة عيد الميلاد الثمانينى للشاعر "الكبير" أحمد عبد المعطى حجازى، أو الناقد "الكبير" محمد عبد المطلب.
ملتقى القاهرة.. "ضرورة الشعر" أم ضرورة "البطاركة"؟
فى الدورات السابقة للملتقى كانت الأمور تسير على قلق، حتى ينعقد المؤتمر وتخرج فعالياته للنور، منحازًا من البداية لذائقة واحدة ولاتّجاه مهيمن لا شريك له، ثمّ تبدأ الهوجة مع انطلاق الفعاليات أو منح جائزة الملتقى، ولكنّ لهذه الدورة طابعًا خاصًّا يميّزها عن سوابقها، فالضجة جاءت مع اللبنة الأولى فى معمار الملتقى وأولى خطواته على طريق التدشين، فمع قرار الدكتورة أمل الصبان، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، باختيار أمانة الملتقى لهذه الدورة، شهد الوسط الثقافى المصرى حالة من الدهشة والصدمة، إما لاستمرار حضور الأسماء المسيطرة منذ الستينيات بكامل جبروتها واكتمال عقدها، أو لتطعيم قائمة الآباء البطاركة بشباب وصِبية لا منجز لهم ولا حضور، كما رأى البعض، وهو ما قاله الشاعر والناقد شريف رزق وآخرون غيره فى تصريحات صحفية عدّة، وأكد استمرار هيمنة جيل الستينيات وحساسيته الجمالية وانحيازاته الأيديولوجية، ليس فقط على مستوى التأسيس النظرى وشبكات تبنّيه العقلانية، بل اتّسع الأمر ليأخذ بُعدًا شلليًّا واجتماعيًّا خارج آليات العمل الثقافى، فهيمنت لجنة الشعر وظهيرها الآخر "بيت الشعر/ بيت الست وسيلة"، يقاسمهما رفاق وأصدقاء محمد عبد المطلب وندماء جلسة الجمعة فى مصر الجديدة، وهم يعرفون أنفسهم ويعرفهم زملاء الساحة الثقافية والعابرون فيها، لنجد أنفسنا فى النهاية أمام خطة عائلية لاحتكار الحديث باسم الشعر والمؤسسة والإبداع، يقودها فيلق الآباء التقليديين، وتعاونهم وجوه محسوبة على الشباب، انتزعت جواز مرورها بانعدام البصمة وخفّة التجارب ومحدودية المشروعات، إن وُجِدت من الأساس.
الصورة الأخيرة التى ظهرت عليها ترتيبات الملتقى، وهى تنبئ عن جوهره وأقصى ما يعد به من ثمار، لا تؤكد أى انحياز للشعر ولا للمؤسسة، ولا حتى للعنوان العريض الذى اختارته أمانة الملتقى للعمل تحته "ضرورة الشعر"، بما تعنيه من ارتباط عضوى بين ساحة التلقى وعموم منتجيها وروّادها، والتوفر على قراءة اجتماعية واعية للجمالى والأدبى، والعكس، تضع الشعر موضعًا حيًّا وديناميكيًّا فى قلب الراهن ووسط تروسه ومُحرّكاته، ولكن الانحيازات الشخصانية والفكرية التى هيمنت على بنية التأسيس والتشكيل والاختيارات، قادتنا إلى ضرورة مغايرة، ليست ضرورة الشعر الذى يمر بأزمة حقيقية ويواجه تراجعًا كبيرًا، ويسقط من وعى المؤسسة والقيّمين عليها، ولكنها ضرورة البطل الفرد والأب المؤسس دائم الصوت والحضور، الذى لا تأخذه شيخوخة ولا بطالة ولا سِنَة ولا نوم، ضرورة البطاركة ومحتكرى الساحة، ومن يمنحون ويمنعون وينفون طوابير ويُقرّبون آحاد الناس، فقط وفق الهوى، لا وفق اختيار الشعر وتفضيلاته واحتياجاته والانحياز إليه.
القائمة التى أصدرتها أمين المجلس الأعلى للثقافة قبل شهور، وضمّت أسماء أكل عليها الدهر وشرب، وأخرى لم نر منها منًّا ولا سلوى، لم تكتف بالتلفيق والتدليس والاختيارات التى لا معنى لها ولا قيمة فيها، وإنما أبت إلا أن تتصرف وفق ما يليق بعائلة، ففرضت هيمنتها على أغلب محاور الملتقى، لتجد شوكت المصرى، وسلمى فايد، وطبعًا فى المقدمة محمد عبد المطلب وعبد المعطى حجازى، يشاركون فى أكثر من فاعلية.
الحقيقة التى لا مراء فيها، أن "حجازى" شاعر طلل، الرجل توقف عن الكتابة قبل 27 سنة تقريبًا، وخلال هذه السنوات أصدر ديوانا واحدًا، كان تجميعًا لمحاولات تريّضه فى شيخوخته الإبداعية، حمل الديوان اسم "طلل الوقت"، وكان طللاً فعلاً، والحقيقة أنه لا كِبَر سنّ "حجازى"، ولا سموق قامته بالمناسبة - وأنا ممن يعرفون له قدره ودوره فى دواوينه الأولى وحتى أواخر السبعينيات - يبرران أن يظل مهيمنًا وفاردًا عباءته على سماء الشعر المصرى، مختزلاً عطاياه كاملةً فى صوته الواهن، وأصوات من يرضى عنهم من أبناء وأتباع وحواريين، كانوا شركاء فى بيت وسيلة أو فى لجنة الشعر، والحقيقة أيضًا أن الدكتور محمد عبد المطلب ينطبق عليه الحكم نفسه بصورة من الصور، ولكن لا يمكننى القول إنه طلل، فالرجل لم يكن عامرًا من الأساس ليصبح طللاً، محمد عبد المطلب مشروع نقدى عادى طوال حياته، لا تأخذنى التكريمات والاحتفاءات المبالغ فيها، ولا تدهشنى الجوائز والأرقام المالية الضخمة، وآخرها جائزة الملك فيصل، وحتى لو كان هرمًا فليس من الواجب أن يجبرنا على اتخاذه قبلة والطواف حوله، وتقديس رؤاه وأفكاره وانحيازاته غير المنزّهة عن الهوى، وهو المعروف بمحبّته وكرهه، والقول والكتابة وفق هذه التفضيلات والمواقف الشخصية، وليس مقبولاً أن أقتنع بالحيدة والجدية والموضوعية وأنا أرى السيدين الكبيرين، اسما وسنًّا وهيمنة إجبارية، يُسيّدان من لا يستحق، ويختزلان قماشة عريضة فى لونيهما الفقيرين، ويحكمان على طوابير وأجيال بالنفى والموت والغربة عن جنة المؤسسة وقطوفها الدانية.
حالة الارتباك والشبهة التى تمس الملتقى وتحضيراته، لا تتوقف على تصوراتنا ورصدنا للشواهد المعلنة والمضمرة والمسرّبة التى فاحت رائحتها وحسب، الأمر خرج لحيز العلن وأخذ أبعادًا مؤكدة للصراع، فالمجلس الأعلى للثقافة، الذى اختار أمانة الملتقى، هو نفسه من خاطب وزير الثقافة لاختيار لجنة معيّنة من قبله لمنح الجائزة، وهو ما اعترضت عليه الأمانة واللجنة العلمية، وبسببه هدّد الأعضاء بالاستقالة، حتى وصلت الوزارة لاتفاق معهم، والأمر فى هذه النقطة لا يصح أن يمر مرور الكرام، فهنا تحديدًا ينفتح البابا واسعًا لعشرات الأسئلة، أولها لماذا تخرج قيادة المجلس الأعلى للثقافة على أعراف الملتقى الثابتة فى دوراته السابقة؟ ولماذا لجأ المجلس للوزير ولديه أمانة طويلة عريضة هو من اختارها بنفسه؟ وهل يعنى هذا شكّ المجلس فى أمانة الملتقى؟ أم يعنى اتجاه الأمانة لاختيار مسبق تشوبه الشبهات؟ وهل لدى المجلس شواهد أو معلومات فى هذا الشأن؟ أم أن لديه توجهات وأسماء يريد تمريرها لمنصة التتويج بعيدًا عن الأمانة؟ وإذا كان ثمة تعارض بين جناحى العمل، فلماذا اختار المجلس هذه الأسماء للأمانة؟ وهل اختار المجلس الأمانة فعلاً أم أنها فُرضت عليه؟
أسئلة كثيرة تتواتر وتتداخل من رحم لجوء أمانة المجلس الأعلى للثقافة للوزير، سعيًا لانتزاع حق تمتّعت به أمانة الملتقى فى الدورات السابقة، ما يؤكد تبادل الشكوك والطعن فى النوايا بين الأمانتين، بعيدًا عن كامل حقيقة الصورة ومكوناتها.
على صعيد البرنامج الفعلى للملتقى، لا تخلو خطط الأيام الأربعة من ملاحظات ومفارقات ومواطن وَهَن وعوار، وإذا تجاوزنا مسألة اعتذار عشرات الأسماء المهمة داخل مصر وخارجها، فإن من بين مئات الأسماء التى تعج بها الساحة الثقافية العربية على امتداد خارطتها ودولها الاثنتين والعشرين، اختارت أمانة الملتقى قائمة من الأسماء العربية التى لا يمكن أن تمثّل تنوع المعروض الشعرى وثراءه، بعيدًا عن نسبية تقديراتنا لأهميتها ومنجزاتها، ومن بين ثمانية وخمسين شاعرا يقرؤون قصائدهم فى ستّ أمسيات، يحضر ثلاثة عشر شاعرا عربيًّا، أبرزهم عز الدين المناصرة وقاسم حداد، والبقية عاديون ومتوسّطو القيمة وليسوا الأبرز والأهم فى بلادهم، وبينما تحضر من الإمارات خلود المعلا، اعتذر حبيب الصائغ، الأهم نسبيًّا، إن لم يكن بالكتابة فعلى الأقل بموقعه فى اتحاد كتاب الإمارات واتحاد الكتاب العرب.
على صعيد الجلسات النقدية، يحضر أربعة نقاد عرب وسط قائمة تضم 20 ناقدًا يقدمون أطروحاتهم وأوراقهم فى أربع جلسات، بينما تضم المائدة المستديرة التى يعقدها الملتقى حول محور "مستقبل الشعر"، سبعة أسماء، منهم شاعر وناقدة عربيان، ويديرها محمد عبد المطلب، ومن مدير المائدة الذى يقترب من عامه الثمانين، إلى أبرز مشاركيها: أحمد عبد المعطى حجازى "تجاوز الثمانين"، وعز الدين المناصرة "70 سنة"، وحسين حمودة "60 سنة"، وأصغر الحضور هيثم الحاج على والناقدة السورية رشا العلى، وكلاهما تجاوز الأربعين، وهو الأمر نفسه فيما يخص مشاركات الشعراء الشباب، فمن بين 58 شاعرًا، يحضر 11 شاعرًا شابًّا، إذا وسّعنا حيّز الشباب ليتاخم الكهولة ويدور حول الأربعين وفوقها، كى تستوعب القائمة أحمد بلبولة وعلى عمران وشيرين العدوى، أما إن تحدثنا عن الشباب وفق معيار طبيعى، غير معيار حجازى وعبد المطلب الذى لا يعترف بمن دون الخمسين، فالمشاركة تقتصر على أحمد عايد ومؤمن سمير وهبة عصام وعبد الرحمن مقلد.
الغريب فيما يخص برنامج الملتقى، تواتر أحاديث عن ترشيح اسم سيد حجاب لنيل جائزة الملتقى، فى الوقت الذى يُصمّم منذ بدايته على الانحياز العنيف أيديولوجيًّا ضد الشعر اللهجى والإبداعات المحكية والمناطقية، بينما يُفترض فيه أنه الملتقى الدولى للشعر العربى، وليس للشعر الفصيح مثلاً، وأن يشهد حضورًا للشعر اللهجى على امتداد الخارطة العربية، إن أراد أن يكون ملتقى حقيقيًّا للشعر العربى، بعيدًا عن سؤال الفعل والحضور والتأثير، الذى لا شك يصب فى صالح شعراء المناطقية والمحكيات.
النقطة الأكثر بروزًا، على صعيد الخلاف التقليدى بين كلاسيكية أحمد عبد المعطى حجازى، والحساسيات الجمالية المغايرة، وأبرزها قصيدة النثر بطليعيّتها وانفتاحها وطابور شعرائها الطويل، أينما ولّيت وجهك ووجّهت ذائقتك، ورغم أنها الأكثر حضورًا وتأثيرًا فى المشهد الشعرى العربى، لم تفز هذه القصيدة إلا بثلاثة عشر مقعدًا على منصّة أمسيات الملتقى، وحتى بين الأسماء الثلاثة عشر غابت أصوات وتجارب طليعية ناضجة ومؤثرة، لم يكن منطقيًّا ولا موضوعيًّا أن تغيب، إلا لغرض فى نفس الآباء والبطاركة، واكتمل العقد باعتذار عبد المنعم رمضان وعاطف عبد العزيز وجمال القصاص وإعلان طابور طويل مقاطعة الملتقى.
المحصلة من كل هذه التداخلات والتشابكات التى لا منطق فيها، أن الهيمنة التى أحكمها جيل الستينيات على مقاليد المؤسسة الثقافية قبل عقود، ما زالت قائمة، وتناضل فى سبيل ألا تنفكّ هذه القبضة الحديدية، ووفق هذه الهيمنة يغيب الشباب، وتتوارى قصيدة النثر، ويتقدم الأبناء الشرعيون للبطاركة والمخلصون لسطوتهم وكهنوتهم، لا لسبب إلا أنهم مخلصون وحسب، ولا حديث وسط هذا المناخ السائل والاختيارات العشوائية والتربيطات والمجاملات عن "َضرورة الشعر"، فالشعر الذى يحتاجه العالم يُكتب ويُنشر ويدار بطرق أخرى، ويزدهر فى ساحات مغايرة، أما الملتقى الذى ينطلق فى القاهرة خلال ساعات، فإنه تكريس وتأكيد لـ"ضرورة حجازى وعبد المطلب"، وإعلان لولادة جيل جديد من التابعين، يلبسون مواقيتنا ويُسبّحون بحمد الستينيات.