توجه طلبة الكونغو الدارسون فى مصر بمظاهرة إلى مبنى السفارة الأمريكية فى «جاردن سيتى» بالقاهرة فى مثل هذا اليوم «27 نوفمبر 1964»، وتمكنوا من إشعال النار فى مكتبة «الاستعلامات الأمريكية» وألقوا كرات ملتهبة على أجزاء أخرى من مبنى السفارة، وشبت حرائق وحدثت خسائر، طبقا لتأكيد «محمد حسنين هيكل» فى كتابه «سنوات الغليان» مضيفا: «كان السفير الأمريكى وقتها هو «لوشيوس باتل»، وهو واحد من أكفا الدبلوماسيين الذين خدموا فى مصر وأكثرهم حماسة لتحسين العلاقات بين البلدين».
اندلعت المظاهرات بعد تدخل سافر من أمريكا فى الكونغو، بتقديمها طائرات لنقل قوات مظلات بلجيكية لغزو مدينة «ستانلى فيل»، التى لاذت فيها بقايا الحكومة الوطنية فى الكونغو، التى كان يقودها الزعيم الوطنى لومومبا قبل اغتياله على يد قوات الاحتلال البلجيكى يوم 17 يناير 1961، وبدأت الأخبار تصل عن مذابح فى ترتكبها القوات البلجيكية التى عززتها كتائب من المرتزقة الأجانب، وحسب هيكل، فإن الثورة عمت كل أفريقيا، وأبرق الرئيس الجزائرى «أحمد بن بيللا» إلى كل رؤساء أفريقيا يقترح التعاون فى اتخاذ تدابير عملية لوقف العدوان، وانعقد مجلس الأمن فى اجتماع طارئ، ووجه الأمبراطور الإثيوبى «هيلاسلاسى» بصفته رئيسا لمنظمة الوحدة الأفريقية دعوة لعقد مؤتمر قمة أفريقى فى أديس أبابا.
أدارت مصر هذه الأزمة بطريقة خاصة يوضحها «هيكل»: «تركت زمام المبادرة للجزائر تتحدث فيها باسم القوى الثورية فى القارة، ولإثيوبيا تتحرك فيها باسم القوى المحافظة إلى جانب رئاسة إمبراطورها لمنظمة الوحدة الأفريقية»، ويعيد «هيكل» أسباب هذا الموقف الحذر إلى أنه فى هذا التوقيت انتهت اتفاقيات مشتريات مصر من القمح الأمريكى، وحان وقت تجديدها باتفاقيات تحل محلها، وأحست الحكومة المصرية بأن نظيرتها الأمريكية تتلكأ فى فتح باب المفاوضات لعقد اتفاقيات تغطى سنة 1965 وتفى باحتياجات مصر فيها، ويؤكد «هيكل» أن البيت الأبيض كان يبحث ويفاضل بين سياسة التصعيد أو التهدئة مع مصر، وكانت المناقشات فى أروقة صنع القرار الأمريكى تطرح بالتساؤل جدوى التعامل مع جمال عبدالناصر، وما إذا كانت مواجهته بالضغط والعنف أكثر فائدة من ملاينته واسترضائه.
فى المقابل، كان للحكومة المصرية تصوراتها أيضا، وحسب هيكل، كان هناك رأيان، الأول يرى تشديد الضغوط على أمريكا باعتبار أنها متورطة إلى الآخر فى «فيتنام» و«مفضوحة» فى الوقت ذاته فى الكونغو، ولذلك لا تملك الدخول فى مواجهة مع مصر، وستفتح باب التفاوض لتوريدات القمح، والثانى يرى أن «القوى الأعظم» حيوان من نوع جديد فى العالم، والتعامل معه يقتضى مرونة فى الحركة تتجنب مواجهته بالتناطح رأسا برأس.
فى هذه الأجواء وقعت مظاهرات «طلاب الكونغو»، وشب الحريق فى السفارة الأمريكية، وحسب هيكل، فإن السفير الأمريكى تقدم باحتجاج رسمى تسلمه وكيل وزير الخارجية السفير «فريد أبوشادى»، لكنه أفضى بملاحظات أخرى إلى الدكتور محمود فوزى، نائب رئيس الوزراء، للشؤون الخارجية، ورجاه أن يقدمها إلى الرئيس جمال عبدالناصر وهى:1 - إن العناصر التى هاجمت السفارة الأمريكية لم تكن كلها من طلبة الكونغو، فقد كانت هناك وجوه سمراء بمقدار ما كانت هناك وجوه سوداء،2 - إن قوات الإطفاء تأخرت فى الوصول مما ساعد على انتشار النيران،3 - إن كفاءة الأمن المصرى معروفة، ولا يمكن أن يفلت منها كل هذا العدد من المتظاهرين، الذين وصلوا إلى السفارة، كما أنه من المستغرب أن يصل هؤلاء بكل شحناتهم من الكرات القابلة للهب دون اعتراض، 4 -إن الحادث وقع فى اليوم الذى تحتفل فيه أمريكا بـ«عيد الشكر»، وهو لهذا ينتظر أن يكون أثره على الرأى العام الأمريكى مضاعفاته، وإنه كصديق لمصر يجد نفسه مضطرا إلى أن يقول: إن هذا الحادث جاء فى أسوأ وقت ممكن بالنسبة إلى الاتصالات الدائرة بين البلدين فى قضايا عديدة سياسية واقتصادية.
طلب عبدالناصر من رئيس الوزراء على صبرى تقريرا مفصلا، وكان رأيه أن الحادث خطير لأنه يعكس قصورا من الأمن المصرى، وطبقا لـ«هيكل»: «اتصل عبدالناصر بمحمود فوزى» قائلا له: «الخطأ علينا هذه المرة، وأنا لا أستكبر فى الحق، ولهذا فإننى أرى أن تدعو السفير الأمريكى وتقدم له اعتذار الحكومة عن الحادث واستعدادها لدفع تعويض عن خسائره».