لم تأخذ موضوعة السلام الأهمية نفسها التى احتلتها موضوعة الحروب فى العالم، ومن هنا جاء كتاب "عالم أوحد: تطــوّر التعاون الـدولى" Un seul monde. L’évolution de la coopération internationale لمؤلّفه غيـِّــوم ديفــان Guillaume Devin الصادر عن منشورات المـركز الوطنى الفرنسى للبحث العلمى (CNRS)، ليُعيد النظر فى الرأى السائد بأنّ التعاون الدولى ما هو إلّا إيمان ساذج بعالمٍ مثاليّ، ففى كتابه هذا، الصادر حديثاً بترجمته العربيّة عن مؤسّسة الفكر العربي، والذى قام بترجمته نصير مروّة، يحاول ديفان تبيان أنّ التعاون المذكور يلعب دوراً أساسياً فى سيرورة السلام وفى مسار إحلاله، حتّى ولو جاء ذلك بطيئاً وغـير منتظم فى هـذا العالم الذى يفتقر إلى الكمال.
لقد جاء الكتاب إذن ليذكّرنا بأنّ الكلام على الحرب يفترض الكلام على السلم، تماماً ككلامنا على الليل والنهار، والموت والحياة، واليأس والأمل، وغيرها من سنن الحياة وتناقضاتها، غير أنّ السـلام بالنسبة إلى غيـِّــوم ديفــان لا يشــكّل مجرّد لحظة، وما أغفله كثرٌ، وبخاصّة فى ميدان العلاقات الدّولية-وتحديداً فى زمننا الراهن المتميّز بكونه زمن "جبروت التقنيّة"- هو بنية السلام هذا وأطره وسيروراته، من هنا تركيزه على هذا البُعد المنسى تقريباً، أى على " جملة ســيرورات التعاون ومســـاراته التى تحـوِّل العلاقـات الدوليّة، فى محاولة تأطير علاقـات القوّة ومـوازين القوى، وتحكيم العقل والتعقّل فيها، وتجاوزها. إنّها حركة الديناميّة التعاونيّة بين الدّول وبين المجتمعات التى غدت المنسى الأكبر الذى أغفله تاريخ العلاقات الدوليّة".
لقد أعاد المؤلّف الاعتبار إلى التعاون الدولى من حيث إنّه هـو مفتاح قراءة العلاقات الدوليّة المُعاصرة، متجاوزاً الاعتقاد السائد بأنّ "التعاون الدوليّ" هو تعبيرٌ على قـدرٍ من الضبابية والغموض، لكونه نُظر إليه بوصفه "ضرباً من الطوعيّة المُنظَّمة"، وفقاً لتعبير سكوت باريت Scott Barrett، متيقّناً بأنّ " الاعتـراف بالآخـر، والعمل المنسَّق، والسعى إلى أهـدافٍ مشـتركة، هى الأشكال المختلفة والصُّور المتنوّعة للنشاطات التعاونيّة"؛ وأنّ هذه " لا تَسـتبعِد النّزاع مطلقاً، ولكنّها تسعى إلى احتوائه ضمن إطارٍ مقبول، أى داخل إطار منظّمة دولية، ومن ضمن قواعـد قانونية، وتفاوض".
وتطلَّب منه ذلك رصد فكرة "التعاون" ودخولها مفرداتنا ومصطلحاتنا منذ النصف الأوّل من القرن التاسع عشـر، ليستخلص جوهرها، فتضمَّن "التعاون" بالنسبة إليه وضعيّة الترابط أو الارتهان المُتبادَل بين الفاعلين، بحيث لا يسـتطيع أى طرف منهم أن يبلغ أهـدافه، من دون أخـذ الآخـرين بعين الاعتبار، وذلك فى إطارٍ من "التنسـيق والتعاون" اللذَيْن يفترضان "إيجـاد حلٍّ مؤاتٍ ومُجـزٍ للجميع"، تكون مسـألة توزيع المغانم فيه قائمة على النحـو الأفضل بحسب المصالح المُشـتركة، وإذا كان ذلك ليس سـهل التحديد على الصعيد الدوليّ، إلّا أنّه لا يعنى أنّه يشكّل "سديماً ضبابياً يعصى على التناول ويصعب على الإدراك".
بمثل هذه الموضوعية العلميّة، يُزعزِع غيـِّوم ديفــان الأفكار السائدة عن التعاون الدّولي، ليخلصَ إلى أنّه " كلّمـا كانت نشاطات التعاون الدولى عـديدة، ومتنوّعة، وكثيفة، تقلَّصت فُرص النزاعات المسـلَّحة، التعاون يخـدم الأمن؛ بمـا فى ذلك الأمن التقليدى بين الدّول، لأنّه يُعطيه بُعـداً جماعيّاً".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة