بملابسها الرهبانية البسيطة، وابتسامتها الهادئة المتواضعة، تفتح "السير ايفون"، بابها كل صباح لتوزع أملا جديدا على مسنى دار السيدة العذراء الطاهرة بمصر الجديدة الذى تخدم فيه محبة فى الإنسانية وأملًا فى نيل بركة العذراء صاحبة البيت وأم الدار كلها.
ميشلين مديرة الدار مع السير ايفون
السير إيفون التى دخلت السلك الرهبانى منذ ما يقرب من 25 عامًا قضت معظمهم كمديرة لمدرسة راهبات بالمنيا، حققت حلمها أخيرًا فى خدمة المسنين، فى الدار التى تأسست قبل خمس سنوات بمصر بعدما تبرع بالمبنى أحد الأغنياء من رعايا الكنيسة.
على حوائط الدار ترى صور الأم تريزا الفقراء واليتامى والمحرومين، راهبة مثلهن نذرت نفسها للإنسانية فقدسها الناس وصار وجهها إلهامًا يوميًا لراهبات الدار يجددن منه خدمتهن كل صباح إن أصابهن تعب أو ملل.
لدينا 26 نزيل فى الدار، تقول السير إيفون بابتسامة لا تفارق وجهها، ثلاثة منهم رجال والباقى نساء ونقدم لهم الرعاية الصحية والنفسية، نمنحهم الأدوية فى مواعيدها بانتظام ونشرف على طعامهم وشرابهم.
ثلاثة راهبات وعشرات الموظفين لخدمة النزلاء المسنين، تقول "مشيلين" مديرة الدار، فتضيف السير أيفون: الدار يفتح بابه أمام كل الراغبين فى الانضمام له سواء أكانوا مسيحيين كاثوليك أو غيرهم من باقى الطوائف أو مسلمين إذا أرادوا ذلك، ولكننا لم نصادف نزيلًا مسلمًا حتى اليوم.
محررة اليوم السابع مع السير ايفون ومديرة الدار
الأهم من الرعاية الطبية هى المرافقة النفسية، تقول إيفون، نمنح المسنين حبًا وحنان ونربت على أكتافهم كل صباح حتى إننا إذ تغيبنا يومًا عن الزيارة سألوا عنا، تقول إيفون، وتستكمل: النزلاء يزورون بعضهم فى الغرف ويتريضون فى أسطح الدار التى خصصناها لذلك.
نصلى القداس مرتين فى الأسبوع، كما إننا نستقبل زوارًا من المدارس والكنائس يؤنسون المسنين فى وحدتهم هنا كما أن أبنائهم يزورونهم أيضًا، وتؤكد السير ايفون أن بعض من الأبناء يخشى زيارة أمه أو أبيه بعدما أصابهم الزهايمر فيصعب عليهم رؤية ذويهم فى تلك الحالة، حتى أن مدام "أنجيل" المصابة بالزهايمر تنادى على أبنها كل يوم وتسأله إذا أكل وشرب وعاد من المدرسة فإذا جاء لزيارتها لا تتعرف عليه، مستكملة : نحرص على ألا نشعرهم بأن الزهايمر قد تمكن من عقولهم ونمنحهم الأدوية فى مواعيدها ويأتى الأطباء لمتابعة حالاتهم حتى نبقى على المخ متيقظًا أطول فترة ممكنة.
تعدل الراهبة "أيفون" من حجابها الرهبانى فوق رأسها، وتعود بالذاكرة لتروى كيف التحقت بهذا السلك وتخلت عن الحياة راضية، فتقول: تعرفت على راهبة مسنة كانت تخدم الفقراء والمسنين وتحب الصلاة وتعطف على القطط فتعلقت بالفكرة وشجعنى والدى على ذلك حتى التحقت بالدير فى المنيا بعد أن كنت أعمل موظفة فى إحدى المدارس الكاثوليكية التابعة للطائفة.
السير ايفون مشرفة دار المسنين
وتواصل السير أيفون: كنت شديدة التعلق بجدتى المسنة وأحببت رعايتها حين تقدمت فى العمر، لذلك تعلق قلبى بخدمة المسنين ولكن الله أراد أن أخدم فى المدرسة طيلة السنوات الفائتة حتى إننى طلبت من مطران المنيا أن يؤسس دار للمسنين لأخدم بها، قبل أن تنادى كنيسة الروم الكاثوليك وتطلب من الراهبات التقدم للخدمة فى هذا الدار فكنت أول المتقدمين.
"رعاية المسنين لا تختلف عن إدارة المدرسة، وخبرتى مع الأطفال كانت خير معين لى فى العمل مع المسنين" تقول السير أيفون، وتؤكد: المسنون مثل الأطفال يحتاجون الحب والرعاية والحنان والاهتمام وحتى اللعب والضحك.
وعن الفرق بين خدمة الراهبة والموظف فى الدار، تقول السير إيفون: أخدم المسنين كرسالة أبحث فيها عن الثواب من الله فهى ليست وظيفة انتظر عليها أجرًا وهو ما أحاول أن أغرسه فى الموظفين ليتمتعوا بروح العطف والشفقة والرحمة.
بسمة إحدى نزلاء الدار
تأخذنا السير أيفون فى جولة بين غرف النزلاء، تبدأ بغرفة بسمة التى تشع من عينيها حبًا ونورًا بعدما أراد الله أن يسلبها البصر فمتعها بالبصيرة، نحييها وهى تمسك بيديها إبرة الصوف تحيك بلوفر أسود لا ترى لونه، ولكنها تحفظ حركات الإبرة جيدًا، تقول إنها تتبرع به للكنائس التى تهبه للفقراء باسمها فهذا البلوفر يذهب لكنيسة العذراء بأرض الجولف والقادم يصبح من نصيب كنيسة أخرى.
تحكى "بسمة" وهى تلعب بإبر الصوف، إنها لا تتقاضى أجرًا عن مشغولاتها أبدًا ولكنها تبيع بعض المشغولات لتشترى صوفًا جديدًا وتتبرع بصافى الربح للكنيسة وهكذا تغطى من تعرى فى برد الشتاء.
"سافرت عند ابنتى فى أمريكا ولكننى قررت العودة، مصر وحشتنى جدًا"، تقول بسمة ، وتضيف: فى أمريكا هناك أرصفة مخصصة للمسنين يمشون عليها بالكراسى المتحركة وكل شئ مجهز للإنسان سواء مسن أو معاق ولكن الحياة جافة وصعبة وبلدنا أجمل رغم كل صعوبات حياتنا فيها.
كريم أحد نزلاء الدار
تستطرد: لو تألمت هنا سأجد من يربت على كتفى ويداوى ألمى أما هناك فلم أقابل أحدًا فى بيت ابنتى طوال ستة أشهر قضيتهم هناك"
نغادر غرفة بسمة إلى غرفة جارتها فيولا التى ترتدى ملابس أنيقة فى هندام كامل وتضع أحمر شفاه وتصفف شعرها وكأنها تستعد يوميًا للعودة لمدرستها حيث كانت تعمل مدرسة للغة الفرنسية، فلا تخلو غرفتها من زيارات تلاميذها من أجيال مختلفة، ولا يتوقف أبدًا زملائها المدرسين عن زيارتها.
فيولا مدرسة اللغة الفرنسية نزيلة الدار
تضحك فيولا وتتبادل مع السير "أيفون" حديثًا بالفرنسية تجدد فيه حبها للغة، وتقول أن الفرنسية لغة رقيقة تليق بالبنات بينما الإنجليزية تناسب البنين أكثر، ونتركها لتستعد لزيارة تلاميذ مدرسة الجمعة القادمة حيث يأتى بابا نويل للاحتفال بالكريسماس وتزيين شجر الكريسماس المنتشر فى أنحاء الدار.
أما لوسى التى تسكن فى الطابق التالى فكانت قد تعرضت لحادث كسر ساقها حين كانت وحيدة فى المنزل، فنجلها فى ألمانيا وأبنتها منشغلة بالعمل، وهى تفضل الدار التى تأتنس فيها برحمة الراهبات ووداعتهن وتمارس تمارين العلاج الطبيعى بانتظام كى تستعيد عافيتها تحت رعاية طبية.
بسمة فى غرفتها تغزل التريكو
فى الطابق الأرضى يسكن الرجال، يقابلنا "كريم" بشارب مهندم وشعر مصفف وابتسامة كبيرة، وصحة جيدة، يقول إنه يفكر فى دراسة الإعلام ليضيف ذلك إلى سلسلة معارفه كمدير سابق لسلاسل فنادق عالمية، سافر كثيرًا وعاد أخيرًا لمصر بعد أن أرسل ولديه للدراسة فى كندا.
كريم بروحه الشابة، يقطع كل جملة وأخرى بابتسامة تومض من وجهه فيوزع الفرح على الجميع: "أنا مبسوط هنا أوى" يقول وهو يودعنا على باب الدار التى تكتسى جدرانها بالرحمة والوداعة.
الدار تستعد للكريسماس
ساحة التريض أعلى الدار
السير ايفون تروى قصة رهبنتها
السعادة تكسو وجه العاملين والنزلاء
كريم نزيل الدار يخطط للدراسة