ما الجنون؟.. إنه كما يبدو حالة غامضة كالحياة وكالموت؟.. تستطيع أن تعرف الشىء الكثير عنها إذا نظرت إليها من الخارج أما الباطن أما الجوهر فسر مغلق!.. هذه الكلمات قدم بها أستاذنا الأكبر نجيب محفوظ روايته "همس الجنون" كتعريف لهذا الشىء الغامض الذى لا نعرفه.
أحيانًا يصل الإبداع حد الجنون، وهو ما حدث مع الكاتب الكبير فأعماله كلها أرّخت واقع الشعب المصرى، خصوصا فى الحارات الشعبية، التى نسجها كما هى، بـ "الفتوات" و"العوالم" و"الساسة" و"الوطنيين" و"البهوات" وحتى قصص الحب العذرى، بصدق وعمق وحرفية، فلم تكن الحارة بالنسبة له مجرد مكان سكنى يقطنه مجموعة من الحرافيش يحكى مغامراتهم، لكنها كانت تجسيدا لقصة الإنسانية كلها من لحظة الخلق وحتى الآن إذ كانت تعادل العالم كله فى نظره.
ففى أفلامه السينمائية "بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية" و"ثرثرة فوق النيل" و"زقاق المدق" و"ميرامار" و"التوت والنبوت" و"الحرافيش" و"الشيطان يعظ" و"القاهرة 30" و"المذنبون" و"أهل القمة" و"الحب فوق هضبة الهرم"، وغيرها، تناول الكاتب الكبير بعيون حقيقية تاريخ مصر الاجتماعى والسياسى والاقتصادى، ونقّب فى حواريها وشوارعها، وكشف التطرف المجتمعى وكذب أصحاب الشعارات وفضح المهووسين جنسيًا.
بين القصرين
زقاق المدق
ليست الحارة وحدها التى منحها أديب نوبل اهتماما، بل كذلك "الغانيات" كان لهم حق أصيل فى سينما نجيب محفوظ، وكثيرًا ما كان يلتمس لهم العذر فـ"عاهراته" لديهن مببرات العهر، مثلا "نفيسة" سناء جميل فى "بداية ونهاية" كان لها دوافع وراء سلوكها طريق الفاحشة، و"إحسان" سعاد حسنى فى "القاهرة 30" كانت مرغمة أن ترتمى فى أحضان معالى "الوزير" أحمد مظهر.
نجيب محفوظ كان يعشق أغانى الفرفشة، إذا كان يرتاح لسماع :(أوعى تكلمنى بابا جاى ورايا.. ياخذ باله منى ويزعل ويايا.. فاهم اوعى تكلمنى، باردون يا عزيزى بابا راجل قاسى.. على أبسط حاجة يجرح إحساسى، يا سلام لو شافنى وياك وعرفنى.. كان يعمل غارة ويلم الحارة، بس ابعد عنى متقفش معايا)، بل ضمها لرائعته "قصر الشوق" ورقصت عليها النجمة نادية لطفى.
القاهرة 30
سناء جميل بداية ونهاية
ليست هذه الأغنية فقط كان يحبها نجيب محفوظ بل كان يميل دائما إلى الاستماع لـ(ارخى الستارة اللى فى ريحنا، أحسن جيراننا تجرحنا.. يا فرحانين يا مبسوطين، يا مفرفشين يا مزأططين قوى إحنا، دلوقت بس أنا اللى ارتحت، لا حد فوق ولا حد تحت، يعرفنى جيت ولا روحت)، أيضا كان يحب (طيب وأنا مالى.. طيب يا غزالى) و(حود من هنا وتعالى عندنا).. وأضافهم لبعض أفلامه.
بعد رحيل الأستاذ لم يأت واحد يعبر عن حالة الحارة المصرية، التى لم نعد نشم فيها رائحة السحر والتراث والعمق بل انحرفت عن المسار بتقديمها "رتوش" مشوهة عن الحارة، وكذلك عن الغانيات الحزانى.
نادية لطفى بين القصرين
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة