"فى العام الأخير، جاءت رياح الخماسين خفيفة على القاهرة، هبت ليومين عواصف ترابية ثم صفا الجو بعد ذلك، عبرت موجة حارة بأجواء البلاد دامت لمدة أسبوع ثم عاد كل شيء لما كان عليه، فى نهاية شهر يوليو استيقظ سكان القاهرة ليجدوا أنفسهم مدفونين تحت أطنان من الرمال والأتربة" الدخول إلى التاريخ له أكثر من باب، والكتب تدخل من أى باب تشاء، ورواية "استخدام الحياة" للكاتب أحمد ناجى دلفت لبوابة التاريخ من باب إثارة الجدل، وسنظل لفترات طويلة نتحدث عن الخسائر والمكاسب التى لحقت بصاحبها، وبالوسط الثقافى بعد أن حكم على ناجى بالسجن لمدة عامين نظير نشره فصلا منها فى جريدة أخبار الأدب، فى الفترات السابقة انشغلنا كثرا بالمؤلف وأزمته، ودافعنا عن موقفه قد استطاعتنا، أما الرواية نفسها فلم نمنحها حقها من القراءة والكشف والنقد.
قلت من قبل "إن أحمد ناجى ظلم نفسه وظلم روايته وأخطأ فى اختيار الفصل الذى تم نشره فى أخبار الأدب، فليس هو بأفضل الفصول، وليس هو أكثرها قدرة على كشف الفكرة التى يريد قولها، فى الرواية أشياء أخرى كثيرة توضح وتكشف الضياع الذى أصاب كل شيء وليس الجمال فقط.
فى الرواية التى صدرت عن منشورات مرسوم، سنة 2014 والتى شارك الرسام ومصمم الأزياء أيمن الزرقانى فى رسوماتها، نجد "القاهرة وقد أصابها شيء غريب "لم تكن رياحا، او رطوبة، أو موجة حر..بل خليط من كل ما سبق مع نكهة من دخان الحريق ورياح الخماسين مضاعفة"، هذه هى الحالة العامة للمكان داخل الرواية، الجميع يعيشون فى كارثة ما، والكل متورط فى صناعتها، لذا نجد " الحر. الشمس. العبوس. اللزق والتلزيق. الألم. الأعصاب الملتهبة. الصرخة المكتومة للداخل. الشارع الذى لا سيسمح لك بالابتسام أو الضحك. نفس الشارع الذى لا يسمح لك بالبكاء أو بالصراخ ألما. شىء ما فى علاقتى بالمدينة بدأ بالتغير" هذه الفقرة من الفصل الخامس فى الرواية يجعلنا نتفهم الحالة التى أراد ناجى أن يدفعنا إليها دفعا، ومن هنا جاءت اللغة الصدامية الحادة، التى رأى البعض أنها خارجة عن المألوف وفجة أحيانا وكاشفة فى أحيان أخرى.
أحمد ناجى
الرواية تقتضى نوعا من التعامل الخاص، هذه الخصوصية تأتى من إجابتك حول مفهومك عن الأدب والكتابة، وحسب مفهومك ستتعامل مع الخروج الذى كتبه أحمد ناجي، لكن على العموم رواية "استخدام الحياة" تتحدث عن مدينة القاهرة التى لا يحبها بطل الرواية "بسام بهجت" الحزين دائما، والذى يكشف اسمه عن تناقض الحياة التى نعيشها، فالقاهرة فى الرواية مدينة كئيبة تجعل سكانها مسوخا فى الحياة يشعرون بأنهم موتى يسيرون على الأرض لحتفهم المؤكد.
ربما سؤال تكرر كثيرا فى الرواية بشكل أو بآخر مثل "لماذا أنا هنا" يكشف الكثير من الحالة النفسية المسيطرة على البطل، الذى لا يعرف على المستوى الحقيقى ما الذى يريده بالضبط، فالرواية إدانة لكل شىء للمدينة ولمسئوليها وللمنظمات العالمية التى تهتم بالمعمار وتهمل البشر، بالتغيرات التى تمحى كل شيء نعرفه وتجعله ناقصا لشيء ما فهو لا يكتمل أبدا.. وللأحلام الضائعة.
كان أحمد ناجى يقصد ما يكتبه، كان يقصد الصدمة، ولا يتوانى فى أن يقدمها بأى شكل " اكتفت وهى تطفئ الجوينت برسم ابتسامة خفيفة على شفتيها كاأنها سحابة على وشك التبول فوق مدينة أوروبية. رددت عبارة موجزة قالتها ببطء وبصوت أقرب للهمس "بص للمزبلة اللى حواليك" تبعتها بتنهيدة وعبارة أقصر "بص للشوارع".
"هناك كارثة قادمة" هذه هى الرسالة التى تريد الرواية أن تقولها، وكلنا فى انتظار الكارثة نفتح مع الرواية باب التأويل، الذى سينصب بالتأكيد على قصد الكاتب السياسى الكامن خلف اللغة التى رآها البعض صادمة.
أحمد ناجى2
الرواية رحلة يعيشها بسام بهجت وأصدقاؤه سواء أكانوا عابرين أم دائمين فى حياته، فكل الشخصيات واقعة فى الضياع الجزئى المتمثل فى الحشيش والجنس والعلاقات غير المكتملة وعدم تحقيق أحلامهم أو معرفة ما الذى يريدونه من حياتهم البائسة وبين الضياع الكلى المتمثل فى التربص بالمدينة العجوز التى فقدت قدرتها على صناعة البهجة فخارت قواها وسمحت للأغراب بأن يحولوا عنها مجرى النيل، فأصبحت بورا زارتها الرياح فى شكل عاصفة قضت عليها تقريبا، حيث أصبحت هناك طبقة من التراب تعلو المبانى وتدفن البشر أسفلها.
"أتذكر لحظة البداية فى شروعى فى كتابة التقرير المعنون باسم "استخدام الحياة" كنت أمارس روتين الوحدة وتربية الامل" الرواية موحية وشخصياتها دالة فمنذ أن تبدأ فى قراءتها ستتوقع أن شخصياتها مأزومة وأنها سوف تقدم على فعل الانتحار فى النهاية، وهذا ما حدث لكن بشكل مغاير كل واحد قضى على نفسه بوسيلة مغايرة إما بالموت أو الضياع والتشرد أو فقدان الإيمان بالنفس، حيث انتهت الرواية وبحار الرمال تغرق الجميع.
هناك أجزاء فى الرواية سقطت فى التقريرية خاصة فى الأجزاء الأخيرة، بالطبع ليست مقالات كما ذكر محضر النيابة فى اتهامه لأحمد ناجى، لكن يمكن اعتباره نوعا من استعراض المعلومات المتعلقة بالعمارة والإنثربولوجيا، وكان على ناجى أن يتخفف من ذلك قدر استطاعته، لكن الرواية يحسب لها مع ذلك تداخل الأنواع حيث الكتابة والكوميكس، وفى الحقيقة أضافت الرسومات للحكاية ولم تكن مجرد أمر توضيحى بل كانت بدلا من أجزاء سردية.
أحمد ناجى
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة