أنغام موسيقى تعزفها الحوريات وعرائِسُ البحر، الأمواج تؤدى رقصات الميلاد على إيقاعها العذب، تداعب رمال الشاطئ المتألقة بلونها الذهبى، والنسيم ينتشى بشذى عطرها الساحر الذى ملأ الآفاق، قوس قزح يلون السماء بألوان البهجة، والنجوم تتدلى مسترسلة على جبينها كزينات وضاءة الأنوار. الكون كله هائم من شدة وَجْدُه بها، يحتفى بمولدها (فينوس) المتوجة إلهة على عرش الحب والجمال.
فى البحر ولدت فينوس، وأتت لعالمنا كلؤلؤة، فقد خرجت من بين ضفتى محارة إلى الشاطئ، لتنجب فيما بعد ( كيوبيد)، الذى أتى إلى الكون بهيئة طفل له جناحى ملاك، حاملاً سهم الحب، الذى كان يصيب به البشر فيوقعهم فيه.
لم تتوقف سرديات الميثولوجيا البشرية عن قصة نشوء الحب، وعلاقته بكيوبيد عند ذلك. لكنها، صورت كيوبيد أحياناً أنه أعمى، كرمزية على أن الحب أعمى، ولا نختار من نحب، وأحياناً وصف بأنه سيء الحظ.
لكن، على أى الأحوال إذا كان الحب ارتبط فى أذهان البشر قديماً بسهام كيوبيد التلقائية والطائشة التى تصيب البشر فتوقعهم فى الحب بدون النظر لأى اعتبارات، سوى هذا التناغم الروحى، والانسجام النفسى، فإن هذه الأسهم فى عصرنا الحالى لكى تنطلق أصبحت مقيدةً ومثقلةً بالعديد من الحسابات والاعتبارات، كحسابات الثروة والمنفعة، والوجاهة العائلية والمجتمعية، والمنصب والسيارة، والشكل والوزن واللون والسن، والعادات والتقاليد الموروثة (ما بدى منطقياً منها، وما لم يبدو)، وقبول تدخلات الأهل ورؤيتهم (ما بدى ممكناً منها، وما لم يبدو)، والأثاث والنيش وما درج على فعله والإتيان به الأصدقاء والأقارب، بل وتعدى الأمر هذا، ليصل أنه أصبح مرهونا بالقدرة على صياغة كلمات الحب البراقة والمعسولة.
ووضعها على صفحات الفيس ليعلم الجميع بهذا الوَلَه، أو بمقدار تبعية وطاعة إحدى الطرفين للآخر، وقبوله لانتهاك خصوصيته، وتلاشى رأيه وإرادته، حتى أنه أصبح ساحة ليفرغ فيها كل طرف عقده النفسية على الآخر باسم الحب.
وفى الحقيقة إن كل هذه الصور التى تمارس فى حقيقتها ليست حباً، بل هى مجرد تحرش بلفظ الحب، لأخذه غطاءً ظاهرياً لتلك الممارسات دون الوصول لمعناه وحقيقته.
فى هذا العصر، وحدها العصافير هى التى تعرف الحب ؛ لأنها تعشق الحرية.
أما نحن بنو البشر فمازلنا نعيش تحت أسر قيود ذواتنا التى تكبلنا وتمنعنا عن حرية الإحساس والتفكير والقرار، بدون أن تلقى إخفاقات الماضى، وهواجسنا، وكوابت اللاشعور لدينا، وعقدنا النفسية، ونواقصنا الشخصية وأطماعنا وموروثاتنا بظلالها وقيودها على تعاملاتنا مع الآخر، أو بمعنى أدق على من اصطفيناهم لنشبع بهم حاجاتنا العاطفية والغريزية، التى نضعها فى قالب شعورى نسميه الحب، ونصيغه فى تقليد اجتماعى، نسميه: الزواج، والذى يتم تقنينه على شكل عقد. لكنه، أصبح فى الشائع عقد زواج مكتوب على ورقة طلاق، بعد أن تجاوزت نسبة الطلاق فى مصر 7% لتصل إلى نسبة 40% فى الخمسين عاما الأخيرة فقط، بمعدل حالة طلاق كل 6 دقائق، بينما وصلت فى بعض الدول العربية الأخرى إلى 60 %، ولم تنجو من ارتفاع نسبته بعض الدول الأوروبية كـ (بلجيكا، والبرتغال، والمجر، وإسبانيا، وفرنسا)، بالإضافة للولايات المتحدة الأمريكية.
وإن كان هذا لا يبدو مستغرباً إذا نظرنا إلى عالمنا الذى أدمن الحروب، وامتهن بميكيافيلية وضيعة لعبة المصالح والمنفعة، مخلفاً ورائه الأخلاق والقيم الإنسانية السامية، وروحانيات المحبة والسلام، فلا يعدو إلا أن أصبحت طبول الحقد والانتقام والكراهية تدق فى ذات الإنسان فيه، وتعلن فيه المعارك، وتقوم مخلفةً أشلاء ودماء علاقاته مع الآخر، فى شكل لم ينج منه حتى علاقته مع شريك حياته.
فيما مضى كان الحب بإمكانه أن يبث الروح فى القلوب المنهكة، فيحييها باشراقات السعادة، ويبعث بريق الأمل فى العيون الحزينة، والنجاح فى دروب الحياة، فقد كان ملهماً للإبداع، وباعثاً للطاقة الايجابية، وكان تتويجه بالزواج، كتتويج ملكين فى مملكة الود والسعادة بإكليل من الياسمين، أما الآن فأصبح من مؤرقات الحياة، وباعث لانطفاء وهج الإنسان، والاستمرار فى تمثيل الأدوار فى ظله أكثر إلى أن يصل إلى عقد الزواج ثم مقصلة الطلاق، لينتهى بانكسار النفس، وانطفاء الروح، وتيه القلب، وآنات صغار مشتتون بين أم وأب أشهر كل منهم للآخر أسلحته، وكالوا العداوة والبغضاء لبعض كيلاً، لهو شكل يجعلنا ندق ناقوس الخطر المجتمعى، بأن هناك خلل يجب أن يعالج، يعرض اللبنة الأولى للمجتمع، والمتمثلة فى الأسرة للانهيار.
ولهذا فإنه علينا منذ البداية أن نختار من يشاركونا حياتنا بأكثر قدر من التقبل لنا، وأقل قدر من الألم والمعاناة بسببهم، وأن نتحرر من كثير من مفاهيمنا التى تقوم عليها تلك الخطوة التى تنتهى بالزواج، التى تختزل الدافعية نحوه فى كونه تقليد مجتمعى متبع، يتم إرضاءً للمجتمع، أو للهروب من نظرته حين التأخر فى أخذ تلك الخطوة، أو اختزال تلك الدافعية فى مشاعر غريزية متأججة سرعان ما تنطفئ حين تبلغ غايتها، وتصطدم بمتطلبات الواقع وصعوباته، أو اعتباره فرصة لاقتناص صيد مادى أو منفعة يطمع فيها.
فكل هذه أسس هشة لا تديم علاقة، وإن دامت لا تبنى سعادتها.
وإن من المنطقى والواقعى فى جميع الأحوال أنه لا تسير حياة كل شريك مع شريكه الآخر على وتيرة واحدة من الوئام والاتفاق فى كل شيء. لكنه، يجب أن يؤمن كل طرف باختلاف الآخر عنه (فليس هناك إنساناً مثيلاً للآخر)، وأن لا يُعين كل منهم نفسه على الآخر ناقداً ورقيباً، أو أن يطالب كل منهم الآخر بمثالية فى الطبائع أو فى الشكل ليست متوافرة فيه نفسه، أو أن يسمح بتدخلات الأهل والأصدقاء فى حياتهما الخاصة، أو أن يجعلوا من أسرار ودقائق حياتهم مشاعاً للجميع، حتى لا تزيد تلك التدخلات من وتيرة الخلافات بينهما، وينضب المخزون العاطفى بينهما، وتخف منابعه، مخلفةً ورائها استحالة الاستمرار.
ولتفادى هذا الجفاف والتصحر العاطفى بين الشريكين، يجب أن يفهم كل شريك لغات التعبير عن المحبة الخاصة بشريكه، وموصلات الإحساس بالحب، ويحاول اتباعها حتى تدوم الألفة، ولا ينهدم البنيان ؛ ولقد عددها (جارى تشابمان) فى كتابه (لغات الحب الخمسة)، من تكريس الوقت للشريك الآخر، وكلمات التشجيع والتقدير والثناء والإعجاب، وتبادل الهدايا، والأعمال الخدمية كمساعدته فى تحمل المسؤوليات، والاتصال البدنى.
وإن كان بالإضافة لهذا، فإن تلك الشراكة أيضاً فى حاجة لأن يكون أطرافها قادرين على صنع حوار بينهما، بحيث يستمع كل منهما لصوت وإحساس ووجهة نظر الآخر، وليس لصوته وإحساسه ووجهة نظره هو فقط ؛ فالقلوب إذا رويت بالمودة والرحمة أثمرت وئاماً ووفاقاً، وإذا رويت بالتجاهل والقسوة أثمرت أشواكا ًوضغائن.
ولكى يستمر تدفق الود والوئام بينهما، يحتاج كل طرف لفطنة الحكيم العاقل، ومرونة الطفل، وحساسية الفنان، وفهم الفيلسوف، ورضى العابد، وسماحة المتفانى، ومعرفة العالم، وثبات المتيقن.
وختاماً: أحبوا بأرواحكم منذ البداية، اختاروا من تأنس بهم الروح، من يستطيعون تقبلكم عمراً ممتداً لن تكونوا فيه فى أفضل وأجمل أحوالكم دائماً، ولا يخلو من فصول الوهن والضجر والشيخوخة، من تستطيعون أن تأنسوا بهم حين يذهب كل شيء، ولا يبقى سوى ألفة الأرواح حول مدفأة فى برد الشتاء، أو مذاق مشروب دافيء، وأنتم تتشاركون حكايات وذكريات الماضي.
أحبوا من يستطيعون أن يشاركوكم اهتماماتكم، من يستطيعون أن يشاركوكم قراءة كتاب، كما يشاركوكم نزهة نيلية، من لا يطفئوكم ويحبطون طموحكم، من يستطيعون تقبلكم بكل فوضويتكم وعفويتكم، بل وبكل جنونكم وسذاجتكم، أحبوا من لا تتحملون عناء التكلف أمامهم.
أحبوا من فى قلوبهم مكاناً للصدق، وإيماناً بقيمة الكلمة، من يكونون سنداً لكم، ولا يتركوكم وحدكم فى معترك الحياة.
أحبوا من يدركون جيداً أنهم بشر، وخطائون، وليسوا قديسيين، من لا يدعون التقوى بألسنتهم، وهى بمنأى عن قلوبهم، وينظرون للناس نظرة التعالى بتقواهم، ولا يرون فيهم سوى نواقصهم وأخطائهم، أحبوا من فى قلوبهم متسعاً للتسامح، من يستطيعون أن يتقبلوا أخطائكم، ويغفروا زلاتكم.
أحبوا من يمتلكون أرواحاً تطير وتحلم وتشدو كالعصافير، من يستطيعوا أن يلونوا الحياة بألوان البهجة.
أحبوا بأرواحكم يهديكم الله ويصلح بالكم.
سارة بيصر تكتب: وحدها العصافير هى التى تعرف الحب لأنها تعشق الحرية
الإثنين، 29 فبراير 2016 06:04 م
العصافير - أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة