• إذ ينادى القديس رهبانه " من يهرب من الضيقة يهرب من الله" فيجيبه ربه "العالم لم يكن مستحقًا لإيمانكم"
• الأنبا بولا أول السواح ينتقل بروحه من مكان لآخر فيكشف الله عن قلبه الحجب
• عين الماء تنفجر فى الصحراء ولا تتوقف منذ عصر القديس حتى اليوم
• الدير يضم كنائس أثرية وجداريات من القرن السادس تحتفظ بألوانها حتى الآن
" من يهرب من الضيقة يهرب من الله" يقول الأنبا بولا تاركًا ميراثه لأخيه الوحيد، مكتفيًا بكسرة خبز يرسلها له الله على يد غراب كل يوم فى الصحراء ونخلة واقفة تقيه شر الشمس وتنزل له من جزعها رطبًا ، زاهدًا فى الدنيا وطامعًا فى الآخرة، ينذر روحه للبتولية وقلبه لله، فيروض لأجله وحشية الأسد ، يظن نفسه وحيدًا فى الصحراء فيظهر له الأنبا أنطونيوس مؤسس الرهبنة ليؤنس وحشته ، ويأتى الغراب لهما بكسرتى خبز بدلًا من واحدة، يكشف الله عنه الحجب فينتقل من بلد إلى بلد بقلبه ويلقب بأول السواح.
فى ذكرى وفاته التى تحل فى الثانى من أمشير أو التاسع من فبراير كل عام، اليوم السابع عاشت بين تلاميذه من رهبان الدير الذين ساروا على نهجه طامحين فى مكانته فى الآخرة.
الطريق إلى الدير
تمشى بك السيارة وسط جبال البحر الأحمر الوعرة متجاوزًا الزعفرانة بعد العين السخنة وقبل أن تصل إلى مدينة رأس غارب ، البحر على يسارك والصحراء أمامك، وصلبان الدير تضى فى السماء فوقك تستدل منها على الأنبا بولا حيث ديره ومغارته، وعلى الباب يوقفك الحارس ثم يفتح لك لتنهل من عبق القديس وذكراه العطرة.
يسلمنا الحارس لراهب مبتسم ووديع القمص " بطرس الأنبا بولا" المسئول عن العلاقات العامة بالدير، يحكى سيرة القديس فيقول إن صاحب الدير أتى إلى هنا بعدما اختلف مع شقيقه الوحيد على ميراث والدهما الذى كان أحد أغنياء الإسكندرية وبينما كانا فى طريقهما إلى قاضى الإقليم ليفصل بينهما، مرا بعزاء أحد الأغنياء تاركًا ماله خلفه فناجى القديس ربه "دلنى كيف أعيش معك يا الله"، فظهر له ملاك وأخذه للبرية الشرقية حيث موقع الدير، فحفر مغارته وعاش على نخلة وعين ماء وغراب يرسل له كسرة خبز كل يوم، وهكذا عاش 90 سنة دون أن يكلم أنسيًا.
يقول القمص بطرس، إن الأنبا بولا تعرض لحروب كثيرة من الشيطان الذى أراد إغواءه وإبعاده عن حياة البتولية والعبادة لكنه كان صابرًا مكتفيًا بلباس من الليف وخبز يأتى به الغراب، حتى عرف أن الأنبا أنطونيوس الذى دخل البرية منذ سنوات سيلتقيه قريبًا، مؤكدًا أن المسافة بين دير الأنبا بولا ودير الأنبا أنطونيوس أبو الرهبان تبلغ 35 كم قطعها الأنبا انطونيوس فشعر الأنبا بولا بقدومه حين جاءه الغراب بكسرتى خبز بدلا من واحدة، فقطعاها معًا وهو ما صار تقليدًا كنسيًا بعد ذلك، حيث يقطع الكهنة القربان من طرفيه فى صلوات القداس الإلهى تبركًا بالأبويين الحبيبين "بولا" وأنطونيوس".
يروى القمص بطرس اللحظات الأخيرة فى حياة القديس الأنبا بولا، فيقول إن البابا أثناسيوس الرسولى أهداه حلة كهنوتية ذهبية، فطلب "بولا" من أنطونيوس أن يذهب ويحضرها حين شعر باقتراب أجله، وبالفعل ذهب وآتى بها فرأى الملائكة تسبح وترتل وكان الأنبا بولا جاثيًا على ركبتيه يصلى، حتى ظل هكذا وقتًا طويلًا فاقترب منه ووجده قد توفى عام 343 ميلاديًا، وفكر فى طريقة دفنه فأرسل الله له أسدين حفرا حفرة ليوارى فيها جسده التراب، بعد أن أخذ ثوبه الليفى وأهداه للبابا اثناسيوس الرسولى، وتحول هذا المكان إلى دير عامر بالرهبان.
بدير الأنبا بولا، بموقعه الحالى، دير آثرى وأخر حديث، وتمتد مساحة الدير الأثرى لخمسة أفدنة تضم ثلاثة كنائس، أكبرها كنيسة الملاك ميخائيل، ثم كنيسة الأنبا بولا، وفوقها كنيسة أبى سيفين وكنيسة العذراء بالحصن، يشير القمص بطرس وهو يمر بنا بسيارته لنتجول فى الدير ، مؤكدًا أن المكان يحتوى الدير على ثلاثة مجمعات لقلالى الآباء الرهبان، وهى قلالى قديمة ويسكن الآباء بأغلبها.
وبمجرد أن ندخل من بوابة الدير الصغيرة نشاهد مجمع آخر للقلالى، ثم نتجاوز شارع القلالى فنرى مخبز الدير القديم، ومجمع ثالث جديد لمساكن الرهبان ينتهى بنا إلى بوابة أخرى من سور الدير.
ندخل إلى منطقة الدير الأثرى فنرى حديقة صغيرة فى منتصفها مجسمات للآباء الرهبان فى أزيائهم الرهبانية السوداء، ثم يمتد بنا الطريق لنرى عين الماء التى روت الأنبا بولا وظلت تتدفق على المنطقة منذ وفاته وحتى اليوم، موضوعة خلف باب خشبى تشق طريقها بين صخور الصحراء فيلين لها الصخر وتنبت بها الزراع والثمار.
يلفت القمص بطرس النظر إلى الفترات المظلمة التى مر بها الدير جراء هجمات البربر والبدو بعدما اقتحموا الدير سنة 1484م وأحرقوا مخطوطات الرهبان ثم عاش فيه السريان وهجروه بعد مجاعة حدثت فى منتصف القرن الخامس عشر.
من عين الماء، إلى كنيسة الأنبا بولا التى حفرها الرهبان بأيديهم فى الصحراء ليسمع الصخر صلواتهم ومناجاتهم لربهم ليل نهار، فاختاروا المغارة التى قضى فيها القديس الجزء الأكبر وبها صندوق مجوف كقبر للأنبا بولا .
يشير القمص بطرس إلى أن الكنيسة أنشئت فى القرن الرابع الميلادى وبقى الدير كذلك إلى أن جاء المعلم إبراهيم الجوهرى فأصلح ما تهدم منه وبنى كنيسة أبى سيفين التى ما زالت قائمة حتى الآن فوق كنيسة مغارة القديس الأنبا بولا الأثرية.
إلى جوار الكنيسة، كنيسة أخرى باسم أبى سيفين، أعاد بناءها المعلم إبراهيم الجوهرى فى آواخر القرن الثامن عشر الميلادى، بالإضافة إلى كنيسة الملاك ميخائيل وهى كنيسة تقوم على طراز الإثنى عشر قبة ويرجع تاريخها لسنة 1777 م.
أما كنيسة الأنبا بولا التى قطن بها أثناء حياته ترى أن سقف الهيكل القبلى والأوسط من الجبل نفسه ،كما أن الهيكل والسلالم القديمة والممرات كلها منحوتة فى الصخر وهى تقع حوالى ثلاثة أمتار أسفل الأرض ويتم النزول إليها بواسطة سلم مكون من 25 درجة منحوت فى الجبليلية ممر بين الصخور يوصل من خلال باب خشبى يعلوه صليب بارز وشباك معقود بعقد دائرى إلى ردهة مستطيلة الشكل ،يعلوها قبة مزخرفة مكتوب عليها من الداخل بالقبطية ما ترجمته : الشهيد العظيم السيد أبادير والشهيدة العظيمة السيدة إيرائى أخته و الشهيد العظيم يوليوس الأقفهصى والشهيد العظيم مارمينا العجايبى والشهيد العظيم مار يعقوب الفارسى والشهيد العظيم أبوسخيرون والشهيد العظيم سيداروس ابن بندالاون، يسجد القمص بطرس فى الكنيسة وينتهى ليؤكد أن سجوده احتراما وليس تعبدًا.
الكنيسة بنيت على الطراز البازيليكى فى تخطيطها وهى تتضمن برجاً مربعاً صغيراً يقع فى الشمال غير ملامس للكنيسة وصحن الكنيسة مستطيل الشكل وبه المغارة التى كان يعيش بها الأنبا بولا والتى يوجد بها تابوته.
وفى مغارة الأنبا بولا التى عاش فيها طوال حياته فتدخل إليها عبر سلم مكون من 13 درجة يصعد بك إلى كنيسة أبى سيفين الموجودة فى الدور الثانى، وبالكنيسة ثلاثة هياكل الهيكل البحرى مكرس على اسم الأربعة وعشرين قسيساً، وغطيت حوائطها برسومات ونقوش ترجع إلى القرن الخامس عشر رسمها أحد رهبان الدير ، وما زالت محتفظة بألوانها ونقوشها حتى الآن.
على الحائط ترى صورا للكثير م القديسين من بينهم القديس بقطر الأسيوطي والقديس ثيوزوروس الشاطبي والقديس مارجرجس الروماني والقديس يوليوس الأقفهصي والشهيد أبادير والقديس أبسخيرون القليني والقديس يعقوب الفارسي والثلاثة فتية اليهود القديسين الذين ألقوا في أتون النيران في عهد نبوخذ نصر ملك بابل والقديس أرسانيوس معلم أولاد الملوك والقديس مارمينا والقديس كرياكوس ويوليطة أمه والقديسة مارينا والقديسة إيريني، ووالأربعة أنجيليين متي ومرقس ولوقا ويوحنا والأنبا أبيب والأنبا موسي الأسود وعلي الجدار الشمالي نجد الأنبا أنطونيوس يقف في المنتصف ومن حوله يقف الأنبا بولا ومعه الأسدان اللذان شاركا الأنبا أنطونيوس في دفنه والآخر القديس سرابيون أحد تلاميذ الأنبا بولا، ويعلق أمام مذبح الكنيسة بيض النعام الذى يرمز لعناية المسيح بأبنائه، والبيضة ترمز إلى القيامة كما يقول القمص بطرس.
تخرج من الكنيسة وتتجه إلى باب الدير فترى الساقية التى كانت تستخدم لرفع الزوار لأعلى للدخول إلى صحن الدير.
إلى جانب الدير الأثرى، يقول القمص بطرس أن الدير الحالى يضم ما يقرب من مائة راهب ومصنعا للشمع ومخبز ومكتبة ومزارع وأراضى زراعية ومشغل لصنع ملابس الكهنوت يعمل بهم الآباء الرهبان كل حسب رغبته وقدراته.
فى عيد الأنبا بولا
فى عيد دير الأنبا بولا، يرفع الآباء الرهبان الصلوات باسمه على مذابح الكنيسة، ينشدون له المدائح "فى حلة نورانيى، وفى ثياب بر نقية، فى أورشليم السمائية، ذبيحة حب قوية وحياة بر نقية، وسيرة عطرة حقيقية"، ويستقبل أبنائه من رهبان الدير جيرانهم رهبان دير الأنبا انطونيوس، ليحتفل الجميع بصلوات العشية ثم التسبحة التى ترفع فى الفجر، وتختتم الاحتفالات بالقداس الإلهى صباح اليوم التالى يرأسه الأنبا دانيال رئيس الدير .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة