الموت زائر ثقيل، كريه، وبغيض سواء على نفس المقدم عليه والذى يخشى ما وراء الموت من حساب وعقاب وجزاء، وكذا على نفس الاهل والأحباء والعشيرة الذين يفجعون فى رحيل حبيبهم ورفيق دربهم مع ما يمثله لهم من معان وما يحتفظون له من مشاعر وذكريات ومواقف. الموت زائر ثقيل بغيض نعم؛ لكنه حق وحقيقة ولا مفر منها لأى مخلوق كان من مخلوقات الله.
وللموت جلال وهيبة واحترام وحرمة، ولأنه كذلك فمن البغيض على النفس أن تجد أناسا يستغلون حادث موت أحدهم لتحقيق مصالح شخصية وإحراز مكسب خاص. فمنهم من تراه يظهر أسفه ويدعى فاجعته فى المتوفى وأنه طعن فى قلبه طعنة مفاجأة بوفاته ثم يأخذ فى سرد حكايات وذكريات عن المتوفى فى محاولة لجذب الانتباه له وتحويل دفة الاهتمام إليه فيلتف حوله ذوو الفضول يسمعون منه ويأخذون عنه فيصير محور الحديث واللقاءات سيما لو كان فى الامر تغطية ومتابعة إعلامية تثير فضول الجمهور وتزيد من مكاسب الإعلاميين المهرولين خلف تلك الموضوعات.
هذا أنموذج لسرقة الموتى والرقص فوق أجسادهم طربا بأنانية متناهية. وأنموذج ثان لأمثال هذا الصنف الأول يتمثل فى هؤلاء اللذين يتعيشون من التغنى بمناقب راحل وسرد فضائله وإنجازاته وجميل صفاته سواء صدقا أو ادعاء وكذبا. من أعجب المواقف التى قابلتنى بهذا الخصوص وتقابلنى كثيرا أن يكون أحدهم قاسيا على أمه، أو أبيه حد العقوق والإهانة المرة ثم يرحل أحدهما أو كليهما ويبقى هو يتغنى بفجيعته فيهما ووجعه عليهما معددا مناقبهما وحلو الذكريات عنهما فيصفه هذا وذاك بالوفاء والبر بها وهو لا يعلم حقيقته غير الله ثم المقربين منه، وهذا الذى كانت تربطه بشخص علاقة عابرة سطحية لكنه استغل موته فى جذب الأنظار إليه بادعاء ضرورة تكريمه وتخليد ذكراه من خلال عمل يحمل اسمه أو جائزة تمثله فيتزعم تلك الدعوة ويتقدم صفوف المهرولين خلف تلك الضجة المفتعلة دون تريث أو وعى والعجب أكثر أن هذا الشخص ربما بل من المؤكد بفعل التجربة والمعايشة أنه لم يتألم على فقدان من هم من لحمته وذوى رحمه بهذا الشكل الذى يدعيه!!! فالأهم أن يشار إليه فيقال هذا الذى فعل كذا لفلان بعد وفاته، وهذه التى فعلت كذا وكذا تخليدا لذكرى فلان، ومن المهم أيضا ان يتغنى هذا الشخص نفسه بما فعل فى كل مناسبة وفرصة تتاح له أو يعمل هو على إيجادها وتهيئتها لنفسه!!!.
لا يغيب عن مخيلتى أولئك الذين يتسابقون للوقوف فى طابور العزاء وصفوف المعزيين لتلتقطه كاميرا صحفية أو يعقد صفقة مهمة، أو يرتب لموعد يترقبه ولفائدة يرجوها ويعمل لها، وهو الذى ربما كانت بينه وبين صاحب العزاء الراحل ضغينة وكراهية!!! وربما ضن عليه بالزيارة حين كان مريضا أو بالمساعدة حين احتاجها، أعرف أحدهم فى عزاء زوج أخته الذى كان يكرهه ويستكثر عليه الرزق والخير والمحبة وقف يداعب بعض الحضور بما يشبه النكات والفكاهة ويلفت نظر أبناء الميت أن يرحبوا بهذا ويهرولوا لاستقبال ذاك ممن يعدهم هو ذوو مكانة وصيت ممن يهمه أن يتجمل أمامهم ويقفز كالبهلوان لهم!! استدعى الأمر أن يهمس له أحدهم: "هذا سرادق عزاء وليس حفل طهور"!!!
لا أقول إن كل من يبكى على حبيب غادر دنياه ورحل عنها ولا كل من يطيب له الحديث عن ميت يعرفه ليجد فى الحديث صبرا وسلوى هو من المنتفعين من وراء ذلك. ولكن يبقى هناك خيط رفيع تستشعره أنت بين الادعاء والحقيقة وبين من يكن فى نفسه وفاء للراحل ومن يتخذ من الرحيل مطية وفرصة لابد من انتهازها وتوظيفها لصالحه.
كل هؤلاء وأمثالهم يسرقون الموتى، يستنزفونهم حتى بعد أن نفضوا أيديهم من تلك الحياة الفانية وغادروها تاركين كل ما بها من نفاق وطمع وخرف زائل لأولئك الذين يتناسون ويغفلون عن حقيقة انهم هم أنفسهم موتى الغد القريب، والقريب جدا.
مقبره أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة