وفجأة يلاحظان أن طلفهما مختلف عن أقرانه بصفات متعددة: تأخر فى نطق الكلمات.. انطوائية.. حركات غير مفهومة.. لا يتجاوب مع المحيطين به، ولا ينظر إليهم، تبدأ الأسئلة.. وتبدأ رحلة البحث الطويلة ويأتى التشخيص الصادم.. «الطفل مصاب باضطراب التوحد»!!
تسيطر الصدمة على الأبوين لفترة، بعدها تتزاحم الأسئلة فى كيف نتعامل، وكيف نساعده، والأمل والمشكلات وشكل المستقبل؟
فى السطور التالية نرصد قصص أمهات أنقذن أطفالهن من دائرة التوحد المظلمة، وقصص لمشاهير اعترفوا بمرض أبنائهم وحاولوا كسر التابوهات لأسر اختارت إخفاء ابنائها المرضى عن المجتمع، نتيجة لغياب الوعى المجتمعى بالمرض، وبعد الجهد والدأب والمثابرة استطاع أهالى الأطفال المصابين بالتوحد التأكيد أن أبناءهم ليسوا متخلفين، وعلى المجتمع اكتشاف طاقاتهم وإبداعاتهم.
رحلة علاج طفل التوحد شاقة
الرحلة التى يقطعها الأهل مع أطفالهم المصابين بمرض اضطراب التوحد طويلة وشاقة وتحتاج لمجهود وأموال، الرحلة لا تختلف بين طفل وآخر ولا بين دولة عربية وأخرى فالمشكلات والأعراض واحدة.
من الأردن كشفت لينا صالح، تفاصيل رحلتها مع طفلها «منصور» المصاب بالتوحد وفرط الحركة فى نفس الوقت، فقالت لـ«اليوم السابع»: «منصور هو طفلى الأول، عندما بلغ عامين، ظهرت عليه علامات غريبة منها عدم الاستجابة لمن ينادى عليه وبعرضه على الطبيب اكتشفنا إصابته بالتوحد.
وأضافت لينا: الصدمة كانت شديدة، وسيطرت الصدمة على، ثم نظرت إلى طفلى وأيقنت أنه فى حاجة لقوتى حتى يمكننى مساعدته، وبدأت أقرأ عن كل ما يتعلق بالمرض، وتوصلت إلى الحل الأمثل لإنقاذ طفل التوحد وهو المراكز التأهيلية التى تساعده فى التغلب على الأعراض كتأخر النطق، فرط الحركة، إلا أن المراكز التى تقدم هذه الخدمة باهظة التكاليف وما دون ذلك لا توجد أماكن تقدم الخدمة بشكل مناسب.
«أم طفل التوحد هى المناضلة الحقيقية»، هكذا عبرت «أم منصور» عن كل أمهات أطفال التوحد، وقالت الأم هى التى تبحث عن مركز التأهيل الجيد، وتقضى معه الساعات الطويلة فى مركز التأهيل واستكمال دورها معه فى المنزل حتى يصبح اجتماعيا وغير مضطرب فى تعامله مع الآخرين، وكل هذا يمثل ضغطا نفسيا كبيرا على الأم فتتوقف حياتها ولا تستطيع الخروج أو الظهور وسط المجتمع، لأن مجتمعاتنا الشرقية لا تقبل أطفال التوحد وتتعامل معهم بطريقة سيئة بل أحيانا يطلق الناس عليهم صفات مهينة تؤلم الأم التى لا تستطيع شرح حالة طفلها لكل فرد فى الشارع أو النادى.
مشكلات طفل التوحد
وبسبب الضغوط النفسية التى تتعرض لها أمهات أطفال التوحد، أنشأت «أم منصور» حسابا على موقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك» كنافذة لأمهات أطفال التوحد فى الوطن العربى يعبرن فيه عن آلامهن وخبراتهن مع أطفالهن كما يتبادلن الآراء، ومن خلال هذه الصفحة توصلن إلى أن المشكلات التى يعانيها أطفال التوحد فى الوطن العربى تتمثل فى:
عدم وعى المجتمع بحالة طفل التوحد، فغالبية الناس يعتقدون أن الأم لم تحسن تربية طفلها نظرا لتصرفاته المضطربة.
عدم قبول أطفال التوحد بالمدارس حتى بعد قرارات الحكومات بقبولهم.
حرمان والدة طفل التوحد من استقلال الطيارة برفقة طفلها لأن هذا الطفل يوصف بالمزعج.
اتخاذ بعض الأطباء من التوحد تجارة، ويعملوا على إيهام الأهل بطرق علاجية جديدة لأطفالهن بأسعار خيالية.
عدم تنمية مهارات الأطفال المرضى، رغم أن لديهم مهارات كثيرة يمكن استغلالها.
طفل التوحد يصل عمر 16 سنة ويكون بلا شهادة أو حرفة يستطيع الاعتماد عليها فى حياته، ولذا نحتاج تدريبا عمليا لأطفالنا على ما يعرفونه من مهارات للاستفادة منه فى وظيفة أو عمل لهم فى المستقبل.
الحرمان من دخول النادى
تعرض «خالد» لأسوأ مشهد يمكن أن يقابل طفلا مصابا بالتوحد، وعنه يقول والده وليد عبدالمنعم: من أهم وسائل العلاج الخروج والاندماج فى المجتمع، ومنذ عدة أيام ذهب طفلى مع والدته للنادى، وهناك فوجئت زوجتى بإحدى العضوات - حاصلة على دكتوراه - تشكو من ارتفاع صوت ابنى وتصرفاته المضطربة، استمرت الدكتورة فى شكواها وتذمرها من وجود ابنى، وعندما شرحت لها زوجتى مرضه وقالت لها «اعتبريه مثل ابنك» ردت الدكتوره المثقفة: «بعد الشر أولادى مش متخلفين».
وأضاف وليد: تقدمت بشكوى لإدارة النادى للمطالبة بحق ابنى حتى يثبت لكل عضو أنه ليس متخلف، وبالفعل استجابت إدارة النادى وأصدرت قرارا بوقف عضوية الطبيبة لمدة 3 أشهر.
وتابع: «رد الاعتبار لابنى كان هدفى، فنحن نعانى فى المجتمع من عدم وعى حقيقى، ولكن صدمتى الحقيقية كانت فى أن السيدة التى وصفت ابنى بـ«المتخلف» هى دكتوره المفترض أن تعرف «اضطراب التوحد» وتستطيع من خلال علمها وثقافتها توعية المجتمع المحيط بها بالمرض.
«إسماعيل».. يحفظ القرآن
ورغم المشكلات التى يعانى منها أطفال التوحد فى مجتمعنا، إلا أنهم يتمتعون بقدر كبير من الذكاء والموهبة الفطرية التى تجعلهم أبطال فى لقصص نجاح عظيمة، كما حدث مع الشاب «إسماعيل رائف فهمى»، 21 سنة، الذى أبهر الحاضرين فى احتفالية اليوم العالمى للتوحد بتلاوته بعض آيات القرآن الكريم. وبكلمات بسيطة عبر «إسماعيل» عن قدراته المتعددة لـ«اليوم السابع» فقال: «هوايتى النحت على الخشب، والرسم بيدى، وأقوم بتلوينها على جهاز اللاب توب، وحاليا أخذ كورسات ICDL، وأستطيع العمل على برنامج الفوتوشوب، وصممت نتيجة 2016 وقمت ببيعها للناس».
وروت «هالة» والدة إسماعيل تفاصيل رحلتها الناجحة معه فقالت: لدى أربعة أبناء وإسماعيل هو الثانى، اكتشفت مرضه بعد أن أتم عامه الأول فذهبنا به سريعا للأطباء الذين اختلفوا فى تشخيص حالته فى البداية حتى استقر التقرير النهائى على أنه يعانى من «اضطراب التوحد».
وتابعت هالة: عشت - كباقى الأمهات اللائى لديهن أطفال مصابون - بالتوحد أياما صعبة حتى الصدمة وبدأت أقرأ عن المرض لأستطيع التعامل مع ابنى بطريقة صحيحة، وكانت أولى الخطوات بمواجهة المجتمع بابنى الذى كان يذهب معى لكل الأماكن ولم أتركه لحظه وكنت فخورة به وبتصرفاته حتى إن كانت مضطربة، حتى يستطيع التواصل مع الآخرين ويتقبله المجتمع.
وبقوة وصلابة استكملت الأم «هالة» قصة ابنها «إسماعيل» فقالت: «منذ 20 سنة لم يكن هناك دعم الجمعيات والمؤسسات المتوفر حاليا لأطفال التوحد، ما جعلنى أنظر لتجارب الآخرين فى الغرب ومحاولة تطبيقها عليه، فبجانب العلاج والبرامج التى كانت متاحة وقتها فى مصر، كنت أشاهد البرامج المقدمة لأطفال التوحد فى الخارج وأطبقها بنفسى فى المنزل واستطعت العبور بابنى لبر الآمان.
وأضافت: من خلال تجربتى أدركت أن الأم والأب والأخوة أفضل معلمين لطفل التوحد، وعليهم مساندته فى كل خطوة ومراقبته حتى يكتشفوا موهبته ويعملون على تنميتها بكل الطرق الممكنة، وهناك مقولة قرأتها وهى «طفل التوحد إنسان يعيش داخل غرفة من الزجاج يشاهد العالم من خلالها ولا يريد أن يخرج لهذا العالم والحل هو أن ندخل نحن معه إلى الغرفة ونقترب منه حتى يثق بنا ونأخذ يده ليخرج لعالمنا بهدوء» وهذا هو المبدأ الذى اتبعته مع إسماعيل.
«آسر».. عازف بدون نوتة
«العزف السماعى موهبة لا يمكن تعلمها» هكذا بدأ «أحمد القرش» حديثه عن أخيه الصغير «آسر» الذى يعانى من اضطراب التوحد، لكنه يتمتع بموهبة الاستماع إلى المقطوعة الموسيقية وعزفها بدون نوتة وهذه الموهبة موجودة فى عدد قليل بالعالم.
وأوضح أحمد: اكتشفنا مرض أخى وهو فى سن صغيرة، وقررنا منذ اللحظة الأولى الوقوف بجانبه، وفى يوم ما شاهدت «آسر» يعزف على البيانو مقطوعة صغيرة من أغنية أجنبية، وتكرر هذا المشهد مرات حتى قرأت عن الذين يستطيعون العزف بدون نوتة عن طريق سماع الموسيقى فقط وعرفت أن هذه الموهبة نادرة، فاتخذت قرارا بتنمية موهبته وأسمعته عدة قطع موسيقية وبالتدريب استطعت تنميتها وجعلته سعيدا بما يفعل وأنا فخور به فى كل مكان، وبدوره قال «آسر» لـ«اليوم السابع»: «أريد الالتحاق بكلية السياحة والفنادق وأصبح طباخا، أستطيع طهى الأرز واللحم وشوى الدجاج بطريقة رائعة، وسأقيم حفلا موسيقيا أعزف فيه أغنية «إنت عمرى» كاملة.
مصر بها مليون طفل «متوحد»
وعن عدد مرضى التوحد فى مصر، قالت الدكتوره داليا سليمان رئيس الجمعية المصرية للأوتيزم «التوحد» إن واحدا من بين 68 مولودا يعانى من التوحد، وتزيد الإصابة فى الأولاد أكثر عن البنات بنسبة 4 إلى 1، وفى مصر حاليا قرابة مليون طفل مصاب باضطراب التوحد.
العلماء يرجعون سبب التوحد لخلل جينى
وقالت الدكتوره هبة العيسوى أستاذ الطب النفسى بكلية الطب جامعة عين شمس، إن «اضطراب التوحد» يظهر عادة فى الأطفال من عمر سنتين، ويؤثر على نمو الطفل وتطوره من حيث اللغة والنطق، ويرجع العلماء سبب الإصابة إلى خلل جينى خاص بالموصلات العصبية تؤثر على نمو الطفل نتيجة خلل فى كيمياء المخ فقط.
مؤشرات تدل على الإصابة بالتوحد
وتشير الدكتورة هبة إلى 10 مؤشرات تكشف إصابة الطفل بالتوحد قبل بلوغة سن الـ3 سنوات، وهى:
1. عدم قدرته على تقليد الحركات التى يفعلها المحيطون.
2. عدم القدرة على النظر فى عيون من يتحدث إليه.
3. تأخر حديثه واعتماده على لغة الإشارة بدلا من الكلمات التى اكتسبها من قبل.
4. عدم الإشارة بأصبع السبابة عند الحديث.
5. زيادة نشاط حركته بصورة غير طبيعية.
6. عدم مشاركته فى الألعاب الجماعية لكن يمكن أن يجرى معهم فى حالة ألعاب الجرى.
7. عدم مشاركته فى ألعاب التفكير.
8. عدم قدرته على استبدال قدمه أثناء ركوب الدراجة، ولكن يستطيع ركوب الإسكوتر.
9. يفضل الانطواء ويظن غالبية الأهل أنه طفل خجول ولكن ذلك من المؤشرات الأولية للتوحد.
10. يكرر الكلمة التى سمعها عدة مرات متتالية مثل «لعبة لعبة لعبة لعبة لعبة.. » وهكذا.
تكلفة العلاج تقترب من 10 آلاف جنيه شهريا
وتؤكد دكتوره هبة العيسوى أن الأم هى التى تقف وراء نجاح طفلها فى تخطى مشكلة مرضه حيث تحركه نحو التقدم، ولا ننسى دور الأب الذى يعمل ليل نهار ليستطيع الإنفاق على التأهيل الذى يستغرق 40 ساعة فى الأسبوع إضافة إلى جلسات التكامل السمعى والأكسجين المضغوط الذى ثبت فاعليته وفى المجمل تصبح تكلفة علاج طفل التوحد فى الشهر الواحد حوالى 10 آلاف جنيه، والأسر المحتاجة لا تستطيع دفع كل هذه الأموال، ما يجعل حالة أطفالها تتدهور كثيرا، واقترحت الدكتورة هبة أن تصبح تكلفة ساعات التأهيل تحت مظلة التأمين الصحى الخاص بالطفل، وعمل فرق للألعاب لهؤلاء الأطفال وتنظيم مسابقات حتى يشعرون بأنهم لا يعيشون فى جزر منعزلة. وقالت الدكتوره إيمان جابر مديرة إدارة الأطفال والمراهقين بالأمانة العامة للصحة النفسية التابعة لوزارة الصحة إن المشكلات التى تواجه طفل التوحد تتضمن عدم توفر المراكز التأهيلية بالقرى وأماكن كثيرة ما يجعل الأم تسافر من 3 إلى 4 أيام فى الأسبوع لتلقى ابنها العلاج فى أقرب مركز لها.
وأهم المشكلات التى تواجه الأسرة هى ضرورة اجتياز طفل التوحد لاختبار ذكاء محدد كشرط للالتحاق بالمدرسة وهذا الاختبار غير مناسب لقدرات المصابين باضطراب التوحد هذا بجانب عدم توفر أماكن لرعاية الطفل اجتماعيا، وأشارت إلى أن مراكز التأهيل التابعة للوزارة كثيرة ولكنها غير كافية لتقديم الخدمة بعدد الساعات اللازمة لطفل التوحد وهى 40 ساعة فى الأسبوع.
وتابعت: استطعنا فى 2013 فتح أول مركز رعاية نهارية فى مستشفى العباسية، وفى 2014 فتحنا مركزا بمستشفى المعمورة للصحة النفسية، وفى 2016 سنفتتح مراكز فى أسيوط وبورسعيد، وتقدم هذه المراكز الخدمة لغير القادرين بالمجان بعد بحث حالة أسرهم الاجتماعية.
موضوعات متعلقة..
- لو ابنك عنده "توحد".. أفكار ديكورات لغرفته تساعد على تحسين مزاجه
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة