وحينما قَدِمَ مَلِك إسبانيا إلى مصر زار دار الكتب بها، وهناك ودَّ المدير أن يُكْرم الزائر فأحضر له أقدم مخطوط فى مصر وقدّمه إليه؛ تطلَّع الملك فى انبهار ودهشة لخطوط المخطوط وزخارفه وألوانه، وراح المدير يلح على الملك أن يمسك المخطوط ولكن الملك اعتذر فى دبلوماسية خوفاً على الورق من عرق يده!
تداعت إلى هذه الحكاية وأنا أستمع لأحد الأصدقاء وهو يحكى لى عندما كان فى عاصمة دولة عربية وزار دار المخطوطات بها، وسأل الموظف المختص عن إحدى المخطوطات فقال له إنها موجودة وسيحضرها له؛ فأحضر مقعداً خشبياً عتيقا ليعلو فوقه حتى يصل إلى المخطوط المنشود ولما كان المخطوط أعلى من قامة هذا الموظف مضافا إليها ارتفاع المقعد وضع الموظف عدداً من المخطوطات فوق المقعد وقفز فوقها بحذائه المغبر باحثاً فى أعلى الرف عن المخطوط المنشود !
وأذكر أنى شددت الرحال لزيارة عجوز ورثَت مخطوطات عديدة عن زوجها الذى توفى قبل مولدى وبعد أن حكت لنا عن ذكرياته معها وكيف كان يعاملها بلطف واحترام طلبتُ منها أن تُطْلعنى على المخطوطات، فقالت لى إنها لم تفتح دولابها الخشبى منذ وفاة المرحوم وبعد لأى وبحثٍ عن المفتاح فتحته لنجد المخطوطات تسرح فيها الأرَضة محوّلة معظمها إلى كوم تراب!
أما ما حدث فى إحدى قرانا فقد كان أشنع إذ لم يترك أحدهم سوى مخطوط واحد كبير وبعد وفاته وُزّع الميراث وكذلك أوراق المخطوط أيضا؛ فَقُطّع المخطوط، وذهبت أوراقه هدراً بين الورثة. ومن يدرى فربما وضعت إحدى الوارثات أوراقها المخطوطة فى وسادة تنام عليها التماساً للبركة! ومع العَرَق ستضيع ملامح الكلمات إلى الأبد كما ضاعت أقدم مسرحية فرعونية – وهذا ما كتبه عالم المصريات الشهير سليم حسن – فقد دّوَّنَ الأديب الفرعونى القديم مسرحيته نحتاً على حجر دائرى كبير فى أحد معابد صعيد مصر وأخذه أحد المزارعين وجعله طاحونا يطحن بها الحبوب لأهل القرية والقرى المجاورة، ودارت الطاحون وضاع النص المنحوت، وحينما اكتشفته بعثة الآثار كان النص المتبقى بقايا مسرحية كُتبت قبل أكثر من خمسة آلاف سنة!!
مَنْ يجمع هذه المخطوطات؟ من يعمل على ترميمها وتصنيفها وتحقيقها؟ لا أقصد هنا المخطوطات المحفوظة لدى الدول – وهذى حالها لا يسر أيضا – بل أعنى المخطوطات المتناثرة فى أرجاء الوطن العربى والعالم الإسلامى والمملوكة لأشخاص، ألا يوجد موقع واحد عبر الإنترنت نعرف إن كانت هذه المخطوطة حُقّقت أم لما تحقق بعد؟ حتى لا نجد التحقيقات المتوازية فى أكثر من قطر عربى بينما آلاف المخطوطات لما تحقق بعد. ألا توجد هيئة عامة تفاوض هؤلاء الأشخاص وتشترى منهم ما يمتلكون وإن رفضوا فعلى الأقل تصويرها ونشرها؟ لقد عثرت بنت الشاطئ فى صعيد مصر على مخطوطة رسالة الصاهل والشاحج لأبى العلاء المعرى وقد ضاع عنوانها وكتب أحدهم رسالة فى الأدب لمؤلف مجهول!!
من المؤسف ومن المفرح فى آن واحد أن آلاف المخطوطات العربية والإسلامية وجدت طريقها نحو مكتبات العالم ولا سيما الألمانية فربما لو ظلت قابعة فى بيوتنا لقُضى عليها؛ آلت هذه المخطوطات إلى المكتبات الألمانية بالجامعات والبلديات من خلال الشراء أو الاستيلاء عليها من الأقطار العربية والإسلامية لكنها – وبحق- وجدت من يسعى إلى حفظها وتصنيفها وفهرستها والعمل على تحقيقها، وإن نظرة فى أعداد هذه المخطوطات لتوضح لنا أهميتها كذخائر تراثية لا تقدر بثمن ؛ فقد احتلت مكتبة برلين الوطنية نصيب الأسد من هذه المخطوطات الإسلامية إذ إن عددها يربو على العشرة آلاف مخطوط مفهرسة فى عشرة مجلدات، يقع كل مجلد فى حوالى ألف صفحة، وفى مكتبة جامعة جوتنجن حوالى ثلاثة آلاف مخطوط من نفائس التراث العربى، وفى مكتبة جامعة توبنجن بجنوب ألمانيا العديد من المخطوطات الذخائر ناهيك عما بها من كل إصدارات العالم العربى والإسلامى من كتب ودوريات منذ اختراع المطبعة، جاوز عمر بعضها المائة عام واختفت من المكتبات العربية وصار الحصول على بعضها ضربا من المستحيل، مما يجعل دورها دوراً ثنائيا فى خدمة المخطوط والمطبوع من الفكر العربى، ولقد عثرتُ فى إحدى زياراتى على مخطوط فريد فى العروض العربى وهو مخطوط "كتاب العروض" لعلى بن عيسى الربعى ت 420هـ وقمت بتحقيقه وعلى الرغم من مضى أكثر من ألف عام على المخطوط إلا أن حالته جيدة، وقد اغتظتُ ذات مرة من المبالغة فى حفظ المخطوطات، وكانت إحدى موظفات المكتبة ترمقنى وأنا أقلّب المخطوط فودّت أن تقلب لى المخطوط بدلا عنى؛ فَصِحت بها فى لطف ممازحا:
ربما يكون هذا المخطوط مِلكا لجدي! فردّت: لكن لم يحافظ عليه أبوك!!
موضوعات متعلقة..
- أبو الفضل بدران: لابد أن يمتلك الشعب المصرى وعيا فكريا بما يدور بالبرلمان
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة