تعرضت القاهرة فى الأيام الأخيرة، لمجموعة من الحرائق، كان أشدها خطراً، وأكثرها فتكاً، حريقى الرويعى والغورية. فقد ضربا قلب العاصمة التاريخية فى مقتل. ونجمت عنهما خسائر هائلة فى الأموال، تخطت النصف مليار جنيه. خسائر لأصحاب المحلات والمتاجر، وأصحاب البضائع الذين يفترشون الشوارع فى هذه المناطق. وخسائر للدولة لأن ما احترق يعد خصماً من اقتصاد الدولة، سواء الاقتصاد الرسمى أو الاقتصاد الموازى غير الرسمى. هذا بخلاف الخسائر النفسية والاجتماعية التى لحقت بالمضارين. وكذا الخسائر الناجمة عن تعويضهم مادياً. وفور وقوع الحرائق امتدت الأصابع لتشير فى أكثر من اتجاه إلى العلة وراء وقوعها. ولما كانت الحرائق متتالية، وتستهدف مواقع تاريخية من القاهرة القديمة، والتى يغلب عليها الطابع العشوائى والزحام، جرى تخمين أن يكون وراء تلك الحرائق كتائب الإخوان. وهو نوع من الاستسهال المخل، واستباق لإجراءات المعمل الجنائى، وعشوائية فى التفكير، فى تحديد أسباب الحرائق. واستكمالاً لمسلسل العشوائية فى التفكير، جاءت عشوائية التناول والعرض الإعلامى. فقد حمل الإعلام الإشاعات من الشارع ومواقع التواصل الاجتماعى، وأعاد إفرازها وتدويرها، دون تمحيص وتدقيق، كى يصبها صباً فى أذن وعين المشاهد.
وبالقطع اهتبل الإخوان تلك الفرصة الذهبية، ونسجوا على ذات المنوال، وتوسعوا وأبدعوا فى النسج. فإذا بهم يطلقون "هاشتاج يا نحكمكم يا نحرقكم"، وانطلقت معه إشاعات أن الإخوان وراء الحرائق، وفى المقابل أطلقت قنوات التلفزة الإخوانية أن وراء هذه الحرائق أجهزة الدولة بقصد تفريغ هذه المناطق من سكانها، لأن أرضها جرى بيعها لبناء أبراج سكنية فاخرة. وهكذا وجد المصرى نفسه محاصر بين إعلام يردد دون تمحيص ما يردده الإخوان، ثم يعيد طرحه على الشارع باعتباره حقائق. ولا مانع من استضافة مجموعة من الخبراء ليضفوا على هذه الإشاعات قدر من الجدية المطلوبة لاكتساب المصداقية. وإشاعات الإخوان التى تملأ الدنيا لتعطى انطباعاً بالإحباط، وتنشر الطاقة السلبية فى أرجاء المجتمع وزواياه. بالقطع أنا لا أنفى ولا أثبت وقوع مثل هذه الجرائم من الإخوان، فهم أهل لها، وقد سبق لهم ارتكاب جريمة حريق القاهرة فى بداية النصف الثانى من القرن العشرين، كما حرقوا محلات اليهود فى أربعينيات ذات القرن. ولكن ما اقصده أن التسرع بإلقاء التهمة عليهم، يضفى عليهم أهمية وتأثيراً ليست لهم من ناحية، ويصرفنا فى اتجاه آخر للبحث يمثل الاتجاه الخطأ من ناحية أخرى. ولو أننا تريثنا قليلاً قبل إصدار الأحكام، وانتظرنا نتيجة فحص المعمل الجنائى، وتصرفنا على أساس هذه النتيجة، لكان تفكيرنا أكثر علمية، وأكثر دقة، ولكان علاجنا لهذه المشكلة أكثر نجاعة، وأكثر إيجابية. وأولى خطوات علاج تلك المشكلة بغض النظر عن سببها، أن نعترف ليس فقط بالقصور الذى نعانيه فى مجال المعرفة بعلوم السلامة والصحة المهنية وإجراءاتها، وإنما بجهلنا المطبق بهذه العلوم المتعلقة بالأمن الصناعى والسلامة والصحة المهنية. فليس لدينا فكرة عن كيفية التعامل مع الحرائق بأنواعها، ولا المواد المستخدمة فى الإطفاء، ولا مناسبة كل مادة لنوع الحريق، ولا لدينا الأفراد المدربون على التعامل مع حالات الطوارئ المتعلقة بمثل هذه الحوادث. والأدوات والمعدات المتعلقة بالأمن الصناعى غير متوفرة، وإن توفرت فليس هناك من يعمل عليها بمهنية وحرفية، وإن وجد من يعمل عليها، فنحن نهمل صيانتها واختبارها وإجراء التجارب اللازمة عليها، وليس لدينا الأجهزة التى تعمل أوتوماتيكياً إلا فى أماكن قليلة، ولا لدينا أجهزة إنذار مبكر بالحرائق بأنواعها، ولا لدينا مخططات لمواجهة الظروف الطارئة. بل الأكثر من ذلك أن الفساد فى هذا المجال قد بلغ مداه لدى بعض الشركات المتخصصة فى المجال تجارياً فقط. حيث تقوم فى مجال أجهزة البودرة الكيماوية الجافة بإعادة تدوير البودرة المتكلسة، عند الصيانة، بإعادة طحنها، وغربلتها بعد تجفيفها، ثم تعبئة الأجهزة بها، بغض النظر عن مدة صلاحية البودرة، ثم يحاسب الجهة الطالبة باعتبارها بودرة جديدة جرى ملء الأجهزة بها، أى أنها السرقة تجرى لعدة مرات، اعتماداً على ما نتسم به من جهل فى هذا المجال، كما أنه ليس هناك شهادات ضمان لهذه المادة، وإن وجدت فهى صورية، وإن لم تكن صورية فليس هناك مجال للمحاسبة عليها قبل وقوع الكارثة. تلك هى الحقيقة التى لابد أن ندركها بعيداً عن الأساطير التى حيكت طوال الأيام الأخيرة. فهل لنا من هذا المأزق من خروج ؟. أتمنى.
حريق الرويعى - صورة أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة